مقالات مختارة

عن تطور الديون وتدشين "نادي المقترضين"

محمود محيي الدين
«نادي المقترضين»… تحرك عالمي لمواجهة أعباء المديونية المتفاقمة - الأناضول
«نادي المقترضين»… تحرك عالمي لمواجهة أعباء المديونية المتفاقمة - الأناضول
صدر منذ أيام تحديث لقاعدة بيانات المديونية الدولية، وتعليقاً عليها أكد صندوق النقد الدولي أن الديون استقرت على ما هو أعلى من 235 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، بما يعادل 251 تريليون دولار. وجاء ذلك بانخفاض في ديون القطاع الخاص، لأعلى قليلاً من 140 في المائة ليعوض زيادة استدانة الديون السيادية لأكثر من 90 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وفي هذا تتصدر الدولتان الأكبر اقتصاداً في العالم مشهد الاستدانة، إذ بلغت نسبة الدين الحكومي الأميركي 120 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، فيما وصلت هذه النسبة في الصين إلى 90 في المائة.

وبينما انخفضت نسبة مديونية البلدان النامية إلى 56 في المائة من ناتجها، فإن خدمة الديون؛ من أقساط وفوائد، استمرت في الارتفاع بسبب ارتفاع تكلفة الاقتراض. بما يجعل هذه البلدان في مواجهة حادة مع ثلاثة ضغوط حرجة تتمثل في أن الاحتياجات الضرورية للتمويل تتجاوز الموارد المالية العامة المحدودة، وأن الإنفاق العام للتصدي للأزمات قد أنهك الموازنات، وأن التراجع الحاد في الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وكذلك المساعدات الإنمائية الدولية، قد قيَّد مصادر التمويل الجديد.

تُذكي هذه المستجدات الدعوات القائمة لمواجهة أزمة المديونية الدولية للبلدان النامية، ورغم أنها اشتهرت في شكلها المعاصر بأنها شغلت الرأي العام العالمي بوصفها أزمة ديون أميركا اللاتينية في الثمانينات، وأزمة الأسواق الناشئة الآسيوية في التسعينات، فإن صمت الأزمة الراهنة فسرته بتوافق ضمني بين الدائن والمدين على اصطناع السكينة حيالها، ولمَ لا؟ فالدائن متحوِّط بمخصصات ضد مدينه فلن يعضله العجز عن السداد شيئاً، والأخطر أن المدين منخرط في لعبة الديون، فهو يستنزف إيراداته ويعتصر من إنفاقه ويختصر من أولوياته حتى يسدد الأقساط في مواقيتها من دون إخفاق.

وصرنا في حالة تجعل المدين المتعثر بين بديلين أفضلهما بمرارة العلقم؛ فله أن يعلن تعثره وعجزه عن السداد، كما فعلت سريلانكا وغانا وتشاد وزامبيا وإثيوبيا، فيواجه انقلاب أسواق المال عليه وتخفيض التصنيف الائتماني، ومنعه من تمويل جديد، وانتظاره الطويل حتى تتم عملية إعادة هيكلة الديون وجدولتها. والبديل الآخر أمام المدين المعسر هو الاستمرار في سداد المستحقات المفروضة على حساب تمويل أولويات الإنفاق العام، بما في ذلك على التعليم والصحة العامة، وهو في ذلك يتفادى الإخفاق في سداد الديون بالإخفاق في التنمية.

ومما انتهت إليه مخرجات المؤتمر الرابع لتمويل التنمية الذي عُقد في مدينة إشبيلية الإسبانية في شهر يوليو (تموز) الماضي، إنشاء مؤسسات وتطوير آليات للتعامل مع أزمة الديون. وهو ما دعمته المقترحات العملية الأحد عشر لمجموعة خبراء الأمم المتحدة التي تصدَّت لأزمتَي الديون والتنمية. وعلينا التمييز بين ثلاثة كيانات: الأول منتدى للديون يلتقي فيه الدائنون والمدينون، ومن مهامه المقترحة تفعيل مبادئ الاقتراض والإقراض المسؤول.

والثاني آلية حكومية تجمع بين الأطراف الدائنة والمدينة في نطاق الأمم المتحدة تدمج الإصلاحات في منظومة الديون في إطار البناء المالي العالمي، وعليها مراعاة الحساسية والاختصاصات المعتبرة للمؤسسات المالية الدولية. والكيان الثالث والأخير هو إنشاء نادٍ للمقترضين، تقوده الدول المقترضة في مقابل نادي باريس المُنشَأ منذ سبعة عقود وتقوده البلدان الدائنة.

وقد شاركتُ في حدث مهم دعت إليه كلٌّ من مصر وزامبيا في أثناء انعقاد الجمعية العامة، شارك فيه وزراء الخارجية وممثلو بلدان عالم الجنوب، لوضع القواعد العملية لتفعيل توصيات مؤتمر إشبيلية فيما يتعلق بتأسيس نادي المقترضين. وأكد فيه المشاركون أهمية هذه المؤسسة التي نودي بها على مدار السنوات الأربعين الماضية منذ ما اجتهدت بلدان أميركا اللاتينية في قرطاجنة عام 1984 لتأسيس هذا النادي ففرَّقت بينها وبين تأسيسه أفعال الدائنين.

وجاءت محاولات أخرى بعد أزمات المديونية الدولية على مدار العقود الماضية لم تنجح فيما كانت تصبو إليه، أو لم تعطِ لإدارة الديون والتصدي لأزماتها الأولوية المطلوبة، بما جعل ما يُعرف بالنظام المالي العالمي يعاني من انحياز تجاه الدائنين، وتشرذم جهود التنسيق بين الدول المدينة وتفتيت جهودها في المحافل والمؤسسات الدولية، وعدم كفاية الدعم الفني المقدم للمدينين، وانحسار مجال تبادل المعرفة بين بلدان الجنوب.

وبرز توجه بضرورة العمل على تدعيم صوت بلدان الجنوب فيما يتعلق بكيفية التعامل مع الاستدانة وتنسيق استراتيجيتها حيالها، وزيادة قدراتها التفاوضية مع الدائنين، وحُسن عرضها مستجدات أوضاعها الائتمانية بأن تغلب الحقائق على الانطباعات السائدة عنها. ولنا في التقارير الأخيرة لقاعدة البيانات العالمية لمخاطر الأسواق الناشئة والبلدان النامية مثلٌ؛ إذ أفصحت هذه التقارير عن أن حالات التعثر في هذه البلدان أقل مما تصوِّره الانطباعات. ومن المنتظر من هذا النادي أن يستفيد أعضاؤه من إيلاء هذه التقارير الاهتمام الواجب، وأن يُسهم في تحديد أولويات الأجندة الدولية، وأن يتكامل بجهوده مع المؤسسات القائمة لإحداث التوازن المطلوب بين الدائنين والمدينين.

ونترقب في الأسابيع القادمة تطوير الخريطة العملية لتأسيس نادي المقترضين، لتحدد أهدافه ومهامه وأساليب تحقيقها، وشروط العضوية ومستوياتها، وترتيبات اختيار مقر أعماله، وقواعد الحوكمة في إدارته، وكيفية اتخاذ القرار، وتمويل أعمال النادي وأنشطته ومصادره. كما يجب أن يحدد دور السكرتارية الفنية، وهو من الأمور المحورية التي تتجلى فيها فرص نجاحه المنشود.

الشرق الأوسط
التعليقات (0)