زرت
بولندا قبل عدة سنوات، ولفت نظري أن المسافة بين مدينة بوزنان البولندية الشهيرة
والعاصمة الألمانية برلين هي نحو ثلاث ساعات تقطعها حافلات تسير بدورية منتظمة.
أما في غرب البلاد فقد شاهدت الحدود البولندية مع بيلاروسيا وعرفت مدى التداخل
التاريخي والجغرافي بين البلدين، عبر العائلات التي أرغمتها تقسيمات الحروب
العالمية على العيش إلى جانب هذا الجانب من السلك الشائك، فأصبحوا اليوم مواطنين
من الاتحاد الأوروبي وأصبح أقاربهم على الجانب الآخر من السلك الحدود مواطني دولة
بيلاروسيا.
فبولندا
مثل أوكرانيا، بلد يعيش بهويتين، إحداهما تنحو في اتجاه
أوروبا الغربية بحكم
الجغرافيا والتاريخ والأخرى تميل إلى أوروبا الشرقية وروسيا. ولذلك فإن مصير
بولندا يرتبط دائما بمصير دول أوروبا الشرقية والعلاقات مع
روسيا رغم أنها تقع ضمن
دول أوروبا الوسطى وليس ضمن أوروبا الشرقية. وكانت عاصمتها وارسو هي العنوان
الأبرز للحلف الذي يضم الدول الاشتراكية الموالية للاتحاد السوفييتي المناهض لحلف
شمال الأطلسي
الناتو، إبان الحرب الباردة. ورغم تفكك حلف وارسو وتفكك الاتحاد
السوفييتي إلا أنه لا بولندا ولا روسيا نسيت هذه العلاقة الأمنية والعسكرية
والاستراتيجية القديمة. وقد جاءت أزمة المسيرّات الروسية في الأجواء البولندية
لتزيد اشتعال الموقف الملتهب أصلا بين دول الاتحاد الأوروبي وروسيا.
العلاقة بين وراسو وموسكو أعقد من مجرد توقيع اتفاقيات ودخول في أحلاف مع أوروبا الغربية. فطبيعة التاريخ ومعطيات الجغرافيا وحقائق الواقع تشير إلى أن بولندا كانت وستظل عبئا لأوروبا الغربية، ولا مفر من التعاطي والتعاون معها من أجل التوزان الاستراتيجي في القارة الأوروبية ولكونها حاجزا بين أوروبا الغربية وبين روسيا
تشير
معطيات السياسة والعلاقات الدولية إلى أن بولندا منذ أصحبت عضوا في الاتحاد
الأوروبي وفي حلف شمال الأطلسي؛ فإنها طلقت المعسكر الشرقي في نسخته السوفييتية
القديمة ونسخته الروسية الحديثة. وتشير معطيات الواقع إلى أن العلاقة بين وراسو
وموسكو أعقد من مجرد توقيع اتفاقيات ودخول في أحلاف مع أوروبا الغربية. فطبيعة
التاريخ ومعطيات الجغرافيا وحقائق الواقع تشير إلى أن بولندا كانت وستظل عبئا
لأوروبا الغربية، ولا مفر من التعاطي والتعاون معها من أجل التوزان الاستراتيجي في
القارة الأوروبية ولكونها حاجزا بين أوروبا الغربية وبين روسيا.
قبل
نحو عامين وفي أيار/ مايو 2023، أقر البرلمان البولندي مشروع قانون يتيح تشكيل
لجنة تحقيق بالنفوذ الروسي في بولندا، هكذا بدون مواربة وبشكل واضح وصريح. وهو
قانون يشير لما قلناه بوضوح من أن العلاقات بين موسكو ووارسو أعقد من مجرد أن هذه
الأخيرة قررت طواعية الانضمام لخصوم روسيا التاريخيين والحاليين في أوروبا الغربية
والولايات المتحدة. وقد ذكرنا في هذه الزاوية قبل ستة أشهر أن بولندا هي بوصلة
أوروبا سلما وحربا، وها هي أزمة المسيرات تطل برأسها بين البلدين مما استدعى
استنفار الناتو والولايات المتحدة.
وبولندا
ليست الورقة الروسية الوحيدة التي تملكها روسيا في أوروبا، فالنفوذ الروسي يمتد
شمالا من حدوده المشتركة مع فنلندا وحتى مولدوفا جنوبا. وهذه الأخيرة حذرتها موسكو
منذ أسابيع من أن تكون أوكرانيا جديدة، إذ رفضت روسيا أن تتخلى مولدوفا عن وضع
الحياد وترتمي في أحضان الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. وهناك انتخابات
برلمانية مقررة في مولدوفا بعد أسبوعين مع نهاية أيلول/ سبتمبر 2025، ستكون حاسمة
لأن ما ستفرزه سيحدد المصير الذي ستتجه إليه البلاد؛ هل بالفعل ستعاند موسكو
وتغامر بأن تكون أوكرانيا جديدة أو تكتفي بوضع الحياد بين روسيا وأوروبا الغربية؟
خلاصة
القول، إن الملف الأوكراني والملف البولندي ليست هي الملفات الوحيدة التي يملك
الروس أوراق ضغط كبيرة فيها ويملكون من خلالها التأثير في مجريات الأمور في
أوروبا. وبالتالي فإن الأجواء المشحونة بين روسيا من جهة والولايات المتحدة
وأوروبا الغربية من جهة أخرى؛ ليست ضمن حدود أوكرانيا وبولندا وحسب، فإذا تطورت
الأمور إلى مرحلة تكسير العظام فإن هناك العديد من دول أوروبا ستطولها شظايا
المعارك والصراع.
x.com/HanyBeshr