مقالات مختارة

فرنسا تشرب من كأس عصيرها

عبد الناصر بن عيسى
الأناضول
الأناضول
حالة الوهن السياسي والاقتصادي والأمني، التي تعيشها فرنسا، في الفترة الأخيرة، وتجلت في أحداث يوم الأربعاء، في حركة “لنغلق كل شيء”، إنما هي قطرة من عصير “العلقم” أو “السم الزعاف”، الذي كانت تقدمه على طبق من “ذهب”، وتشرب نخبه، شعوبا كثيرة في الساحل والشام والمغرب العربي وبورندي وهايتي، إلى حدّ التيهان، فلا تكاد تصحو إلا على فتن وأحقاد تزيدها ضعفا على ضعف، بينما تبقى المستعمِرة القديمة تنعم وتتسلّى بمازوشية استبدادية بوجع الآخرين. فقد تبيّن مع مرور التجارب والعقود، أن الاستعمار الفرنسي، لم يكن يبحث فقط عن مصالحه لأجل الخير لشعبه، وإنما يسعى لسحق الآخرين ورميهم في وادي البؤس والأحزان.

كان أقسى ما تقوله فرنسا كلما توجعت تونس أو لبنان أو السنغال، أن تصدر بيانا لرعاياها في تلك الأمصار المتألمة، تطالبهم بمغادرة البلاد أو توخي الحذر. ويشهد التاريخ أن فرنسا لم تذرف قطرة جهد، لأجل إصلاح ذات البين في الأزمات الداخلية للبلدان الموجوعة، بما في ذلك في عشرية الجزائر الحمراء.

كان يمكن للتاريخ أن يكون مغايرا، لو لم تُضيّع فرنسا بلدانا إفريقية في مجاعات لا تنتهي بنهب خيراتها، أو لم تعث مجازر في بلاد بحجم وتاريخ الجزائر، ولو لم تسنّ قوانين الفتنة والتفرقة في بلاد الشام، ولو لم تجعل هايتي أفقر بلاد المعمورة، فصفحت الشعوب، ولم يطلب بعضها غير الاعتذار. ومع ذلك، لم ترد فرنسا، دون بقية البلاد الأوروبية المستعمرة، سوى بلوغ “أنا وبعدي الطوفان”.

هناك بلاد أوروبية، مثل هولندا وإيطاليا وبلجيكا والبرتغال وإسبانيا، كانت لها صولات استعمارية في بلاد إفريقية وآسيوية عديدة، ولكنها، لم تلعب دور الأب أو السيد، الذي لا يريد لأوامره إلا أن تطاع، بل منها من طوت صفحة الماضي نهائيا، واعتذرت للشعوب التي ذاقت من أخطاء رجالاتها السابقين، ولكن فرنسا وحدها من زرعت في كل بلد فيروساتها، وتريدها أن تتحكم في زمام البلاد والعباد، وإن فشلت وزعت هذه الفيروسات كالوباء في جسم هذه البلدان.

حاولت فرنسا، على مدار سنوات، أن تجمع بقايا مستعمراتها في ملتقيات وتجمعات فرانكوفونية تحول سفاراتها في هذه البلدان أشبه بملحقات لحكوماتها ووزارة داخليتها أو جهاز مخابراتها، ونسيت في سعيها لامتلاك ما لا تملك وضعها الداخلي الذي ساء في جميع النواحي، وفي كل مرة، تقدم للعالم وجها حاولت إخفاءه، فكشفته هذه الأحداث وتلك، كما حدث الأربعاء الماضي، عندما عاشت باريس ومختلف المدن الفرنسية بعض المشاهد، التي كانت تطالب رعاياها في بلدان أخرى بأخذ الحيطة، وحتى العودة إلى فرنسا، عندما تندلع ويصورها إعلامها بالجحيم.

وقد تلقت فرنسا الكثير من اللوم والزجر والهجر، بسبب دورها السلبي تجاه الفتن الداخلية في البلاد التي كانت مستعمرات لها، إلى أن عشنا حينا من الدهر تابعنا فيه ألم من كانت تتابع ألمنا.

يقول المثل الجزائري: “ما يحس بالجمرة إلا اللي عافس عليها”، ويقول الكاتب الفرنسي جورح بيرنانوس: “تعرف حقيقة الرجال من آلامهم،« Qui cherche la vérité de l’homme doit s’emparer de sa douleur »
فربما أحسّت فرنسا بجمرة الشعوب، وربما اغتنمت آلام الرجال لتعرف حقيقتهم.

الشروق الجزائرية
التعليقات (0)

خبر عاجل