مع اقتراب
سفينة "مادلين" التي تحمل نشطاء من دول غربية في محاولة لكسر
الحصار المفروض
على
غزة، يفرض عنوان هذا المقال نفسه، ومع تلك اللحظات الفارقة، تتضح أكثر ملامح السياسات
المصرية تجاه قطاع غزة وسيناء. ولكن من أين بدأت هذه السياسات؟ وما هي تداعياتها على
المنطقة؟
تدمير الأنفاق
وعزل غزة
منذ عام 2013،
أطلقت الحكومة المصرية حملة مكثفة لتدمير الأنفاق التي كانت تربط قطاع غزة بسيناء،
وقد كانت بمثابة شريان حياة لسكان غزة. اعتمد سكان القطاع عليها لتأمين المواد الأساسية
مثل الغذاء، الوقود، الأدوية، ومواد البناء، في ظل حصار الاحتلال الإسرائيلي المفروض
عليهم. إن تدمير هذه الأنفاق أسفر عن تفاقم الأوضاع الإنسانية في غزة، وزاد من عزل
القطاع عن العالم الخارجي.
وادعت السلطات
المصرية استخدام الأنفاق لتهريب السلاح وتسلل عناصر مسلحة إلى شمال سيناء منه، لكن
السياسات المتبعة أثارت تساؤلات وضعت مصر في خانة الاتهام، وقد كان بالإمكان إيجاد
حلول تحقق التوازن بين الحفاظ على الأمن الذي ادعته مصر؛ وترك الأنفاق لتخفيف الأعباء
والحصار عن سكان غزة.
المنطقة العازلة
وتهجير سكان رفح
أحد أبرز الإجراءات
التي اتخذتها الحكومة المصرية كان إقامة "منطقة عازلة" على الحدود مع قطاع
غزة، امتدت في بعض المناطق حتى 5 كيلومترات. أسفرت هذه السياسة عن تهجير آلاف العائلات
قسرا من مدينتي رفح والعريش، ودمرت مئات المنازل. ورغم أن الهدف المعلن من هذه الخطوة
كان "مكافحة الإرهاب"، فإن طريقة تنفيذها أدت إلى تفكك المجتمعات المحلية
في تلك المناطق، وأحدثت أزمات طويلة الأمد. إذ لم تقتصر هذه الإجراءات على تهجير السكان،
بل تمت دون تعويضات مناسبة أو توفير بدائل سكنية لائقة، ما جعل الأمر يزيد تعقيدا.
الإغلاق المتكرر
لمعبر رفح
يعد
معبر رفح
المنفذ البري الوحيد تقريبا لسكان غزة إلى العالم الخارجي، وهو خارج سيطرة الاحتلال
الإسرائيلي. لكن السلطات المصرية تقوم بشكل متكرر بإغلاقه لفترات طويلة، مما يزيد من
تعقيد الوضع الإنساني في القطاع. هذا الإغلاق أسهم في تعطيل وصول المساعدات الإنسانية،
وتسبب في تأخير علاج الجرحى، بل أدى في بعض الأحيان إلى وفاة البعض بسبب تأخرهم في
الوصول إلى المستشفيات.
ورغم أن الحكومة
المصرية تُبرر إغلاق المعبر بالاعتبارات الأمنية، فإن الواقع يشير إلى أن هذه الإجراءات
أصبحت في كثير من الأحيان أداة ضغط سياسي أكثر منها تدابير أمنية. هذا يعزز التساؤلات
حول دوافع إغلاق المعبر، ويثير شكوكا حول دور مصر كجزء من الحصار المفروض على غزة.
مصر وتعطيل
دخول الوقود والمساعدات
من بين الإجراءات
التي أثارت الكثير من الجدل، كان تعطيل دخول الوقود والمساعدات الإنسانية إلى قطاع
غزة من قبل السلطات المصرية، حتى وقت الحرب. طوال فترات طويلة، عرقلت مصر دخول الوقود
اللازم لتشغيل محطات الكهرباء والمستشفيات في القطاع، فضلا عن تعطيل مرور الشاحنات
المحملة بالمواد الغذائية والأدوية. وعلى الرغم من أن هذا الإجراء تم تبريره في بعض
الأحيان بالأسباب الأمنية أو اللوجستية، إلا أن الواقع يشير إلى أن هذه السياسات قد
كانت جزءا من لعبة سياسية تهدف إلى الضغط على المقاومة الفلسطينية في غزة، خاصة حركة
حماس.
إغلاق المعابر
أو تقليص الكميات التي تدخل من الوقود والمساعدات، كان له تأثير كارثي على الوضع الإنساني
في القطاع، الذي يعاني أصلا من حصار خانق. ولكن ما زاد من تعقيد هذه السياسة هو توقيت
هذا التضييق، الذي غالبا ما تزامن مع فترات الحرب، حيث كان يُفهم على أنه محاولة للضغط
على المقاومة الفلسطينية، لابتزازها لتحقيق أهداف سياسية أو عسكرية. هذا السلوك يثير
تساؤلات كبيرة حول مدى التزام مصر بحقوق الإنسان فضلا عن دور الوساطة، ويضع علامات
استفهام حول إذا ما كان النظام المصري قد استخدم معاناة المدنيين الفلسطينيين كوسيلة
للضغط على خصومه السياسيين في غزة.
في النهاية،
يعد هذا النوع من السياسات انتهاكا صريحا للمبادئ الإنسانية الأساسية، ويؤكد أن استخدام
المعابر وموارد الحياة الأساسية كأدوات للابتزاز السياسي يؤدي إلى مزيد من المعاناة
ويساهم في تفاقم الأزمة الإنسانية في غزة.
مصر.. وسيط
في النزاع أم شريك في الحصار؟
تجد مصر نفسها
في موقع معقد: فهي تلعب دور الوسيط الرئيس بين حماس والاحتلال، لكنها في الوقت نفسه
تُعد جزءا من الحصار المفروض على غزة. ورغم أن الاحتلال الإسرائيلي يتحمل المسؤولية
الرئيسية في فرض الحصار، فإن دور مصر في إغلاق المعبر وتدمير الأنفاق يعني أنها تُسهم
في تشديد الخناق على غزة أيضا.
إن السياسات
التي اتبعتها مصر، من تدمير الأنفاق إلى تهجير السكان وإغلاق المعابر، تطرح تساؤلات
مشروعة حول تورط مصر في جريمة "الإبادة الجماعية" في غزة.
ضرورة مراجعة
شاملة للسياسات
وإذا كانت
مصر تريد الابتعاد عن اتهامات المشاركة في جرائم الإبادة والتهجير القسري، عليها أن
تبدأ بتغيير سياساتها بشكل جذري. وعليها فتح معبر رفح بشكل منتظم ودائم، لتسهيل مرور
المساعدات الإنسانية، وتيسير وصول المرضى والجرحى إلى العلاج. وأيضا إعادة سكان سيناء
المهجّرين قسريا من رفح والعريش كما وعدت، وبالتأكيد الضغط بشكل فعال على الاحتلال
الإسرائيلي لرفع الحصار عن غزة ووقف حرب الإبادة.
إن مصر، بتاريخها
وثقلها الإقليمي، قادرة على أن تلعب دورا بارزا لحل القضية الفلسطينية، لا أن تكون
جزءا من منظومة الحصار والعقاب الجماعي. ومن مسؤوليتها الأخلاقية والقانونية، بل وأمنها
القومي، أن تقف إلى جانب الشعب الفلسطيني، وأن تتجنب تكرار منطق القمع والعزل تحت شعار
الأمن.