في الوقت الذي تواصل فيه الحكومة المصرية خططها بطرح الأراضي الحيوية وذات القيمة الاستراتيجية على المستثمرين والصناديق الخليجية ونفذت مؤخرا عدة صفقات كبرى، إلا أن أزمة الدين الخارجي مازالت تشكل عقبة كؤود تنسف أي حصيلة دولارية نتيجة تلك الطروحات.
آخر البيانات الصادرة عن البنك
المركزي المصري، كشفت، عن حجم معاناة ثاني أكبر اقتصاد قاري، وثالث أكبر اقتصاد عربي، مع أزمة دين خارجي بلغت 161.2 مليار دولار بنهاية أيلول/ سبتمبر 2025، فيما رفع البنك تقديرات خدمة الدين الخارجي خلال عام 2026 مقدما، وهي معطيات تعكس عودة الارتفاع بعد فترة من التراجع النسبي خلال العام الماضي.
خدمة الدين وأرقام ضخمة
ورفع المركزي المصري، تقديراته لخدمة "الدين الخارجي" بقيمة 1.3 مليار دولار خلال عام 2026، لتصل إلى نحو 29.18 مليار دولار، مقارنة بحوالي 27.87 مليار دولار سابقا، وارتفعت قيمة "الأقساط المستحقة" بنحو 1.1 مليار دولار، مسجلة 23.79 مليار دولار، مقابل 22.72 مليار دولار سابقا، فيما زادت تقديرات سداد "فوائد الدين" بنحو 250 مليون دولار، لتصل إلى نحو 5.4 مليار دولار في 2026.
ووفق ذات البيانات من تقرير الوضع الخارجي للاقتصاد المصري، ارتفعت نسبة "الدين الخارجي" إلى الناتج المحلي الإجمالي لـ 44.5 بالمئة بنهاية آذار/ مارس 2025، مقارنة بـ 38.8 بالمئة بنهاية حزيران/ يونيو 2024، ووصل إجمالي "الدين الخارجي" إلى 156.7 مليار دولار بنهاية آذار/ مارس، بزيادة قدرها 3.8 مليار دولار عن نهاية حزيران/ يونيو 2024، نتيجة زيادة القروض الخارجية بنحو 3.3 مليار دولار.
إجمالي "الدين الخارجي"، واصل الارتفاع إلى 161.2 مليار دولار بنهاية أيلول/ سبتمبر 2025، بزيادة تجاوزت 300 بالمئة، فيما بلغت نسبة "الدين قصير الأجل" من إجمالي الدين 19.2بالمئة بنهاية آذار/ مارس 2025، مقارنة بـ 17 بالمئة بنهاية حزيران/ يونيو 2024.
وكشف البنك المركزي، عن سداد القاهرة نحو 30.1 مليار دولار بالتسعة أشهر الأولى من العام المالي 2024/2025، توزعت بين 24.3 مليار دولار "أقساطا" مستحقة و5.8 مليار دولار "فوائد"، وأوضح التقرير أن الزيادة جاءت نتيجة ارتفاع "مدفوعات أصل الدين" بنحو 6.8 مليار دولار، بينما شهدت الفوائد انخفاضا بحوالي 0.5 مليار دولار خلال نفس الفترة.
تغول فوائد الديون على الإيرادات
وفي السياق، كشف تقرير لوزارة المالية المصرية في الـ3 من تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، عن تغول أرقام فوائد الدين، على ميزانية البلاد السنوية، وأكد التقرير الحكومي ارتفاع "فوائد ديون" مصر بنسبة 54 بالمئة في الربع الأول من السنة المالية (2025/2026)، مسجلة 695 مليار جنيه من إجمالي الميزانية، مما زاد العجز إلى 2.5 بالمئة من الناتج المحلي، مع تجاوز فوائد الدين لـ"إيرادات الميزانية" بحوالي 50 مليار جنيه.
وبينت وزارة المالية، أن "فوائد الدين" التهمت كافة "إيرادات الموازنة" العامة للدولة خلال الربع الأول من العام متجاوزة إجمالي الإيرادات بحوالي 50 مليار جنيه، وأكد مراقبون أن "تلك الأرقام تحدث لأول مرة"، مشيرين إلى أنها "تأتي برغم ارتفاع (حصيلة الضرائب) في مصر بنسبة 37 بالمئة إلى نحو 566 مليار جنيه"، وفق التقرير الذي أكد أن حصيلة الضرائب تعادل خلال الربع الأول نحو 88 بالمئة من إجمالي الإيرادات.
وتشكل فوائد الدين العبء الأكبر على مالية مصر خلال السنوات الماضية، خاصة بعد تسجيل الديون الخارجية أكثر من 156 مليار دولار في الربع الأول من العام الجاري، بحسب بيانات وزارة التخطيط والتعاون الدولي.
اعتراف حكومي
وفي آب/ أغسطس الماضي، اعترف وزير المالية المصري أحمد كجوك أن "العجز الكلي" لموازنة مصر تضاعف إلى 1.26 تريليون جنيه في العام المالي الماضي 2024-2025، بضغط من "فوائد الديون" التي التهمت معظم "إيرادات الميزانية".
ووفق تقديرات صندوق النقد الدولي متوقع وصول
ديون مصر الخارجية 202 مليار دولار منتصف 2030، فيما أعلن البنك المركزي في آب/ أغسطس الماضي، وصول قيمة خدمة الدين الخارجي المستحقة في 2026 إلى 25.97 مليار دولار، وتكشف التقارير الرسمية عن التهام أعباء "خدمة الدين العام"، نحو 80 بالمئة من الإيرادات و50 بالمئة من المصروفات العامة، فيما تشير تقارير اقتصادية إلى أن الدين العام المصري يبلغ نحو 377.8 مليار دولار.
وأكد وزير المالية المصري السابق محمد معيط، والمدير التنفيذي بصندوق النقد الدولي، أن التحدي الأكبر أمام الدول ليس حجم الدين ذاته، بل خدمة الدين، خصوصا في ظل تقلبات أسعار الصرف ومعدلات التضخم والفائدة عالميا.
حصر الأراضي وطروحات متتابعة
ويلفت محللون إلى أن تلك الأرقام الرسمية حول حجم الديون الخارجية وتفاقم خدمتها وضغوطها على الميزانية والإيرادات العامة، تأتي في الوقت الذي حصلت فيه مصر على دعم بقيمة 4 مليارات دولار من الاتحاد الأوروبي، الشهر الماضي.
كما تأتي في توقيت عقدت فيه حكومة القاهرة مؤخرا عددا من الصفقات، بينها بيع أراضي استراتيجية وحيوية هامة لمستثمرين خليجيين، دون جدوى في تخفيف حجم الديون أو تقليل آثارها على حياة 108 مليون مصري، يعانون الفقر وضعف الدخول وتفاقم الأسعار وتقليص الدعم الحكومي.
وتقوم حكومة رئيس النظام عبدالفتاح السيسي، بعمليات حصر واسعة لجميع الأراضي بالمحافظات، ليصل الحصر إلى الأراضي المحيطة بنهر النيل، تمهيدا لطرحها على مستثمرين، كما تواصل الحكومة خطط بيع الأراضي على الساحل الشمالي الغربي للبلاد، بعد صفقة "رأس الحكمة" مع الإمارات في شتاء 2024، تبعها صفقة مع قطر وحديث عن صفق مماثلة للكويت.
وشكلت، أيضا، لجنة لحصر ومراجعة الأراضي المطلة على ساحل البحر الأحمر (1941 كم)، لتنهي أعمالها منتصف أيلول/ سبتمبر الماضي، تمهيدا لوضع ضوابط استثمارية جديدة بهدف تعظيم العائد منها، وفي ذات السياق، جمعت الدولة 5.9 مليار دولار منذ آذار/ مارس 2022 إلى تموز/ يوليو 2025. من بيع حصص في 19 شركة للقطاع الخاص والمستثمرين العرب في إطار سياسية ملكية الدولة.
أحدث الصفقات
والخميس الماضي، وقعت شركة "الديار القطرية"، صفقة "سملا وعلم الروم" بالساحل الشمالي بقيمة 29.7 مليار دولار، (4.9 ألف فدان)، فيما تحصل مصر الشهر المقبل على 3.5 مليار دولار، ثمنا للأرض، وعقب توقيع الصفقة، قال وزير المالية أحمد كجوك، لوكالة "رويترز": "هذا المبلغ يستخدم لخفض الدين العام وتحسين المؤشرات الاقتصادية"، موضحا أن "العوائد الاستثنائية من هذه المشروعات" تتخذ هذين المسارين.
وتقدم العديد من المستثمرين الخليجيين بعروض للحصول على أراضي بساحل البحر الأحمر، كما جذبت الخطط الحكومية شركات محلية مثل "إعمار مصر" و"سوديك" و"أوراسكوم للتنمية" لطلب تخصيص آلاف الأفدنة.
وفي 7 أيلول/ سبتمبر الماضي، وقعت صفقة "مراسي ريد" بمساحة 10.2 مليون متر مربع، بـ"خليج سوما" بالساحل الغربي للبحر الأحمر، بشراكة سعودية إماراتية، بين "إعمار" و"سيتي ستارز"، باستثمارات 900 مليار جنيه، وفي 27 أيلول/ سبتمبر الماضي، أعلنت مواقع محلية شراء تحالف سعودي إماراتي "أرض المعارض" الاستراتيجية بمدينة نصر شرق القاهرة، مقابل 700 مليون دولار، بحسب موقع "القاهرة 24".
في الشهر ذاته، ورغم المخاوف الأمنية، قبلت "المصرية للاتصالات" أكبر مشغل اتصالات بالبلاد، عرض "هيليوس للاستثمار" البريطانية للاستحواذ على حصة من "مجمع مراكز البيانات الإقليمي" بتقييم بين (230 و260 مليون دولار).
نحتاج اقتصادا متوازنا
وفي تقديره لأسباب تفاقم ضغوط الدين الخارجي لمصر رغم توالي صفقات بيع الأراضي، قال الخبير
الاقتصادي المصري الدكتور أحمد البهائي، لـ"
عربي21": "لسنا بصدد توجيه النقد بهدف الإضرار، بل نهدف إلى تحقيق تحسينات وإصلاحات اقتصادية".
وأضاف لـ"عربي21": "هناك من يردد أن نسبة رصيد الدين الخارجي إلى الناتج المحلي بحدودها الآمنة، رغم قربها من 50 بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي، متناسين أن الاعتماد على هذا المؤشر يتطلب اقتصادا متوازنا، بمعنى مساهمة الناتج المحلي الإجمالي بالنصيب الأكبر بحجم الإنفاق القومي، بشقيه الاستهلاكي والاستثماري".
وتابع: "كذلك تناسوا أنه اقتصاد يعاني عيوبا هيكلية، والإفراط بالاقتراض الخارجي لسد الفجوة التمويلية، وحل أزمة نقص العملة الصعبة، زادت أعباء خدمة الديون المستحقة (فوائد وأقساط)، ما ساهم باقتطاع من إجمالي الناتج المحلـي للوفاء بالتزامات المديونية الخارجية، والاقتراض مجددا للوفاء بالالتزامات على حساب تمويل الواردات".
لهذا يقترض غيرنا
وأوضح البهائي، أن "عدم قدرة الحكومة على تمويل الواردات من السلع، أحدث انخفاضا بحجم العرض الكلي من السلع والخدمات، مع تزايد حجم الطلب الكلي، ما يدفع الأسعار للارتفاع، وزاد عجز الموازنة وعجز الحساب الجاري".
ولفت إلى أن "دول العالم تقترض لكن ذلك يتوقف على قوة اقتصادها الذي ينعكس عبر تقييم تصنيفها الائتماني، وحول مصر يقع تصنيفها تحت جدول المراقبة والتعديل (الدرجة 15)، ما يؤكد أنها بالمنطقة غير المرغوبة للمستثمرين باعتبارها ذا مخاطرة تصل لدرجة (عالية)، ويقع تحت خانة التصنيف غير الاستثمارية بثلاث درجات، باعتبار أن الوضع المالي للمقترض يتغير، وقدرة وفائه بالتزاماته المالية حاليا قد تكون ممكنة ولكن سيواجه شكوك مستمرة تؤثر على دفع التزاماته".
وأشار إلى أن "حكومات مصر تعودت الاقتراض لسد فجوة مواردها المحلية الناشئة نتيجة اختلال وعيوب بهيكل الاقتصاد، ومنها الاختلال الحاصل نتيجة زيادة حجم الاستثمارات الحكومية عن حجم المدخرات المحلية التي دائما في عجز عن تمويل المشروعات".
من الإفراط إلى الإدمان
وبين الخبير المصري أن "الحكومة تحولت من إفراط الاقتراض الخارجي لسد فجوة الموارد المالية لحالة الإدمان عليها، رغم شروط الاقتراض المجحفة وارتفاع أسعار الفائدة عليها وقصر فترة السداد، حيث تقترض الحكومات لإقامة مشروعات التنمية، لتوفر موارد مالية لمزيد التنمية وسداد خدمة الدين، ما يجعلها في غير حاجة للاقتراض".
وأكد أن " العكس يحدث بمصر، لأسباب: الفساد المتعمد المصاحب لعملية التنمية أو أن تسيير توزيع القروض أدى لزيادة حجم القروض عن الاحتياجات، أو سوء إدارة وتخطيط غير سليم بتقدير الاحتياجات الفعلية من القروض، ما يؤدي لسوء استخدامها وتوظيفها لتمويل مشروعات منخفضة الإنتاجية أو عديمة الانتاجية أو استخدامها لتمويل إنفاق استهلاكي على حساب الاستثماري، مما جعل الاقتصاد عرضة لمشاكل مالية واقتصادية نتيجة عجزه عن الوفاء بالالتزامات الناشئة عـن القروض".
هكذا يؤثر الاقتراض
وأكد البهائي، أنه "من خلال مؤشر رصيد المديونية الخارجية إلى الناتج المحلي الإجمالي نعرف مدى تأثير الاقتراض على الاقتصاد رغم ما يقال أن وضع المؤشر بالنسبة لمصر في أمان، حيث أن ارتفاع الدين لـ161.2 مليار دولار يشير لارتفاع نسبته لإجمالي الناتج، متجاوزا النسب التي حددتها وكالات المال العالمية، وتقوم على مقومات داخلية وخارجية لا تتوفر باقتصاد مصر، لتقترب من نصف حجم الناتج المحلي الإجمالي، مما يؤكد أن فجوة الموارد باتت مقلقة".
"أيضا، وبمؤشر رصيد المديونية الخارجية إلى الصادرات، الأكثر أهمية عند بيوت المال العالمية ووكالات التصنيف الائتماني، يتضح أن الصادرات المصرية مدينة، وأن المديونية تقع بخانة الديون (المتفاقمة)، لتجاوزها النسبة الدولية (200 بالمئة) الخانة (المعتدلة)، ففي مصر تجاوزت (350 بالمئة) -نسبة الديون المتفاقمة- لتصل 450 بالمئة، ما يعني أن حصيلة الصادرات من موارد النقد الأجنبي لا تفي بتمويل واردات الدولة، وبالتالي اللجوء للاقتراض لسداد خدمة الدين".
مربع الصفر
ذهب البهائي، للقول إن "اقتصاد مصر قد يعود لمربع الصفر مجددا، رغم ما قيل عن إنجازات برنامج الإصلاح الاقتصادي؛ طالما الإصلاحات لا تعالج الاختلالات والعيوب الهيكلية، وخاصة الخارجية الناجمة عن زيادة المديونية الخارجية، وزيادة أسعار الواردات، نتيجة جمود جهاز الإنتاج ومحدودية العرض الحقيقي من السلع والخدمات".
ويضيف بالقول: كل ذلك أدى لتوسع الحكومة في الواردات لتلبية الزيادة المستمرة باحتياجات السكان من السلع والخدمات، ما ساهم بانتقال زيادة الأسعار من الأسواق العالمية للاقتصاد المصري، وجعل تلبية الاحتياجات من الواردات تستنفذ الجزء الأكبر من الاقتراض الخارجي، كما ساهمت الزيادة في حجم المديونية الخارجية في ظل محدودية حصيلة الاقتصاد من النقد الأجنبي إلى العجز عن سداد أعباء المديونية".