قضايا وآراء

دلالات الوجود البريطاني المتكرر في منطقة الخليج

الأناضول
ثمة دلالات لتكرار زيارات القطع البحرية البريطانية لمنطقة الخليج العربية ضمن عملية "هايماست" التي تقودها حاملة الطائرات "إتش إم إس برينس أوف ويلز". هذه التحركات ليست مجرد استعراض للقوة أو إجراءات مؤقتة، بل تعبير عن التزام طويل الأمد يجسد الشراكة البريطانية للعمل كشريك في إحلال الأمن والاستقرار بعيدا عن التنافس مع القوى الأخرى في فرض الهيمنة والنفوذ في المنطقة بما فيها الولايات المتحدة.

ظل الخليج العربي محورا أساسيا للتجارة العالمية وحركة الشحن والملاحة البحرية حتى في ظل التوترات المتصاعدة في البحر الأحمر جراء نشاطات جماعة الحوثي اليمنية. وبينما تركز سياسات الولايات المتحدة على المحيطين الهندي والهادي، تجد بريطانيا نفسها أمام واقع جديد فرض عليها الاستثمار في فرص تعزيز وجودها وزيادته في المنطقة انسجاما مع رؤيتها للشراكة مع الدول الخليجية التي تستند إلى روابط تاريخية تمتد لفترات طويلة سبقت الانسحاب الرسمي البريطاني من المنطقة عام 1971 التي تعتمد على وجود عسكري ودعم في التدريب والاستشارات في المجالين العسكري والاستخباراتي لشبكة الحلفاء في المنطقة.  

لقد حافظت بريطانيا على وجودها العسكري في الخليج من خلال شبكة من قواعد الدعم الضروريةلنشاطاتها في المنطقة كقوة مهتمة بالحفاظ على الأمن والاستقرار وضمان أمن حركة الشحن الدولية عبر مياه الخليج العربي بالشراكة مع الدول الخليجية ودول العالم الأخرى وليس كقوة مهيمنة أو مستعمِرة. لذلك لم تكن الزيارات المتكررة للقطع البحرية البريطانية للمنطقة مجرد زيارات عابرة في ظل واقع التحولات العالمية والإقليمية المتسارعة، إنما تعكس التزام بريطانيا تجاه الشركاء والحلفاء في الخليج خاصة بعد خروجها من الاتحاد الأوربي وسعيها لتنفيذ سياسة "بريطانيا العالمية" وتأكيد نفوذها كقوة فاعلة في المنطقة والعالم.  

شهد الخليج خلال العقد الأخير تحولات سريعة في العلاقات بين الدول وإعادة رسم التحالفات مع القوى الكبرى في ظل التحديات التي تواجه الملاحة البحرية العالمية. فالتوترات في البحر الأحمر، الناجمة عن هجمات الحوثيين على السفن التجارية، أثرت بشكل كبير على مسارات التجارة العالمية ورفعت تكاليف الشحن. هذه الهجمات تؤكد ضعف الممرات المائية الحيوية وأهمية الوجود العسكري الذي يمكن أن يردع هذه التهديدات ويضمن حرية الملاحة. بالإضافة إلى ذلك، بينما لا تزال المنطقة أساسية لأمن الطاقة العالمي، فإنها تشهد أيضا تحولات هامة في خططها الاقتصادية.

تستثمر دول الخليج بشكل كبير في تنويع مصادر الطاقة مما يضيف مزيدا من الأهمية للمنطقة تتجاوز مجرد كونها موردا للنفط أو منطقة عبور للطاقة. ويتضح ذلك أكثر مع استمرار الولايات المتحدة بالاتجاه نحو جنوب آسيا وتراجع نسبي في الوجود العسكري المباشر حيث انسحبت جزئيا من العراق وسوريا وخفضت أعداد طائراتها الحربية في عدد من قواعدها بالمنطقة وكذلك قطعها البحرية في مياه الخليج العربي والبحر الأحمر ما دفع بولادة شعور لدى الحلفاء الخليجيين بان التزام واشنطن بات اقل ضمانا وان مظلة الحماية الأمنية الأمريكية لم تعد مصدرا للاطمئنان بعيد المدى ما أتاح لقوى أخرى مثل بريطانيا فرصة لملء الفراغ وتعزيز وجودها تحت مسميات عدة.
يضع المملكة المتحدة في موقع مثالي، ليس لتكون "بديلا" لواشنطن، بل "مكملا" لدورها

ومع ذلك، لا تزال الولايات المتحدة تحافظ على علاقات دفاعية عميقة مع دول الخليج، لكنها تشجع حلفاءها على تحمل مسؤولية أكبر في إدارة أمنهم الإقليمي. هذا يضع المملكة المتحدة في موقع مثالي، ليس لتكون "بديلا" لواشنطن، بل "مكملا" لدورها، حيث تقدم وجودا دائما وقدرات متخصصة قد لا ترغب الولايات المتحدة في توفيرها بشكل مستمر. إن الالتزام البريطاني طويل الأمد يسمح لها بتقديم نفسها كـ "شريك موثوق" في لحظة تحتاج فيها دول الخليج إلى ضمانات أمنية في مواجهة تهديدات محتملة قد تكون من إيران أو من حلفاء إيران.  

تتمثل هذه الشراكة "المفترضة" بين بريطانيا ودول الخليج العربية في وجود عسكري دائم في المنطقة من خلال قواعد عسكرية أبرزها القاعدة البحرية في البحرين وقاعدة الدعم المشتركة في الدقم بسلطنة عُمان المؤَجرة من قبل بريطانيا لتأمين مسارات الإمداد وكمحطة لصيانة القطع البحرية والمعدات العسكرية البريطانية في المنطقة إلى جانب كونها نقطة انطلاق لعمليات عسكرية محتملة في المحيطين الهندي والهادي. كما إن هذه الشراكة تسهم بشكل فاعل في التدريبات العسكرية المشتركة وتعزز قدرة القوات البريطانية على العمل في بيئة صحراوية شبيهة ببيئة سلطان عمان من خلال المناورات المشتركة التي تجرى سنويا.

وتمثل عملية "هايماست" تجسيدا حيا للنهج البريطاني الجديد. تُعد هذه العملية، بقيادة حاملة الطائرات أمير ويلز، أكبر وأكثر طموحا من عمليات سابقة، حيث تُظهر القدرة الكاملة للقوة الجوية البحرية البريطانية. تضم المجموعة للمرة الأولى سربين كاملين من طائرات F-35B البريطانية المخصصة للهجوم والردع الجوي، وسفن الحراسة البريطانية لحماية حاملة الطائرات من التهديدات الجوية والبحرية المحتملة.

ولم يكن اختيار مسار العملية عبر البحر الأحمر والخليج العربي باتجاه المحيطين الهندي والهادئ اختيارا عاديا، بل هو تجسيد لسياسات بريطانيا الجديدة نحو الشرق بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي في المساهمة المباشرة في أمن الملاحة في منطقة الخليج والبحر الأحمر لتأمين حركة الشحن الدولية والممرات المائية، مضيقي هرمز وباب المندب ضمن رؤية شاملة لمفهوم الأمن العالمي في المياه الدولية والإقليمية في الخليج وجنوب آسيا والتأكيد على قدرة بريطانيا على العمل كمركز لشبكة من التحالفات الدولية التي تعكس مفهوم الأمن المشترك وتكامله في المنطقتين.

وتتبع الصين نهجا يركز على المصالح الاقتصادية البحتة، متجنبة التدخل في الشؤون الداخلية للدول. يُنظر إلى الصين كدولة يمكن بناء علاقات صداقة معها على أسس الاقتصاد بعيدا عن الإملاءات أو فرض الأجندات السياسية أو التدخل في شؤون الدول الداخلية خاصة ما يتعلق بملفات حقوق الإنسان أو مكافحة الإرهاب أو طبيعة النظام السياسي القائم فيها، وهو نهج يختلف جذريا عن نهج الولايات المتحدة أو بريطانيا التي هي الأخرى في أحيان كثيرة تمزج بين المصالح الاقتصادية المشتركة وقضايا أخرى تتعلق بحقوق الإنسان أو الأمن أو غير ذلك.

ومع ذلك، يبقى النهج البريطاني مقاربة واقعية قابلة للتكيف مع محدودية الموارد وتنافسية البيئة الإقليمية. وبدلا من الدخول في صراع مباشر على النفوذ، تحاول بريطانيا أن تُقدم نفسها كشريك يجمع بين الحماية العسكرية والخبرة الدبلوماسية، مما يجعلها مختلفة عن النهج الاقتصادي الصيني أو النهج الأمريكي الذي عادة يتدخل في أكثر من شأن من شؤون الدول الشريكة والحليفة بما فيها علاقات هذه الدول مع دول العالم الأخرى خاصة الصين وروسيا. لكن الشراكة البريطانية "قد" لا تحاول أن تكون بديلا عن الشراكة مع الصين، إنما شراكة تقوم على تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة لخلق بيئة متعددة الأقطاب يمكن للقوى المتنافسة التعايش فيها.

في عصر تتغير فيه التوازنات والتحالفات بسرعة، تؤكد بريطانيا من خلال وجودها المتكرر أن شراكتها مع الخليج ليست مؤقتة، بل هي دائمة وقائمة على أساس المصالح المشتركة ومواجهة التهديدات المحتملة. إن الوجود الدائم والمرافق العسكرية في البحرين وسلطنة ُمان هي الركيزة الاساسية لهذا الالتزام، وعملية "هايماست" هي الاثبات العملي على قدرة بريطانيا على تنفيذ هذا النهج القائم على التعاون البعيد عن نهج وأساليب تعامل القوى الأخرى، مما يجعلها شريكا موثوقا لدول الخليج. وتتوقف قدرة بريطانيا على الحفاظ على هذا الدور باستمرار الاستثمار في قواتها المسلحة، خاصة في ظل التعهدات الحكومية بزيادة الإنفاق الدفاعي إلى 2.6% ثم 3% من الناتج المحلي الإجمالي.

ستظل الشراكة البريطانية الخليجية ركيزة أساسية للأمن الإقليمي، ليس فقط للحماية من التهديدات المباشرة (مثل هجمات الحوثيين)، ولكن أيضا لتوفير بيئة مستقرة تمكن دول الخليج من تنفيذ خططها للتنويع الاقتصادي وإعادة تعريف دورها في القرن الحادي والعشرين.