مقالات مختارة

ممداني: اشتراكي في قلب الإمبراطورية

جيتي
ليس زهران ممداني أول اشتراكي يُنْتخب في الولايات المتحدة، ففي فاتحة القرن الماضي انتخب أكثر من ألف اشتراكي لمناصب حكومية، بضمنها الكونغرس، والمجالس التشريعية في ولايات عديدة، وأكثر من 130 عمدة في 353 مدينة. لكن حملات الترهيب من «الخطر الأحمر» وقمع الشيوعية والأفكار الاشتراكية وكل من يعتنقها، أو يدعو إليها في العقود التي أعقبت ذلك، وبالذات بعد الحرب العالمية الثانية وبدء الحرب الباردة، أقصى طيف الاشتراكية ونسخها إلى هامش الهامش، حتى باتت شبحاً.

ولعلها لم تعد بقوة إلى وسط المسرح السياسي إلا بعد تنافس السيناتور المستقل من ولاية فرمونت بيرني ساندرز، على الترشح لانتخابات الرئاسة عن الحزب الديمقراطي في 2016. لكن هيلاري كلينتون فازت لتخسر أمام ترامب. وما زال البعض يعتقد أنه كان بإمكان ساندرز أن ينتصر على ترامب، لو فاز بترشيح الحزب. ألهم نجاح ساندرز وحزمة المطالب التي نادى بها، والشعبية التي اكتسبها جيلاً جديداً وشرائح مختلفة من الناخبين. وبرزت معه وبعده أسماء جديدة دخلت المعترك السياسي، لعل أبرزها الكساندرا أوكازيو كورتيز، التي انتخبت عن الدائرة الرابعة عشرة في نيويورك عام 2019، ومعها فلسطينية الأصل رشيدة طليب، عن ولاية ميشيغان. والاثنتان من الاشتراكيين الديمقراطيين.

لوحظ في الآونة الأخيرة أن أوكازيو كورتيز بدأت تخفف من حدة نبرتها وتنحو منحى أكثر براغماتية يقرّبها من «وسط» الحزب الديمقراطي، ما خيب آمال الكثيرين من مؤيديها. ويبدو أنها تتطلع إلى تسلق تراتبية الحزب، وتطمح للترشح لمنصب سيناتور. أما ساندرز فلم يتخلص من صهيونيته، خصوصاً بعد السابع من أكتوبر. لكنهما ما زالا من أهم الأسماء في ما يعرف بيسار الحزب الديمقراطي (الذي يصوره ترامب والجمهوريون راديكالياً متطرفاً) ولديهما رصيد من الرأسمال الرمزي وقد باركا حملة ممداني ودعماها بالطبع.

استهل ممداني خطابه بعد الفوز ليلة الثلاثاء بجملة مقتبسة من الزعيم الاشتراكي الشهير، يوجين ديبز (1855-1926): «ربما غربت الشمس عن مدينتنا هذا المساء، لكن، بإمكاني أن أرى فجر يوم أفضل للبشرية.» كان ديبز مناضلاً نقابياً واعتقل بعد أن قاد إضراباً لعمال السكك الحديد في 1895 وخرج من السجن بعد ستة أشهر مشبعاً بالأفكار الاشتراكية التي قرأ عنها.

وكان من مؤسسي الحزب الاشتراكي الأمريكي في 1901. كما كان المرشح الاشتراكي في انتخابات الرئاسة خمس مرات، آخرها وهو في السجن بعد إدانته بالعصيان وسجنه في 1918 لمعارضته دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى.

وكان ديبز خطيباً مفوهاً وسياسياً ماهراً. أعاد ظهور ممداني بكارزميته وموهبته في التواصل، وحماسته والطاقة الإيجابية التي تميزت بها حملته، الأمل إلى كثيرين في نيويورك وخارجها، ممن كانوا على حافة اليأس بعد تغوّل الفاشية في عهد ترامب الثاني، وازداد الوضع الاقتصادي سوءاً، خصوصاً في نيويورك، المدينة الأكثر غلاء في الولايات المتحدة ومن أغنى المدن في العالم. هناك لحظات ومنعطفات فارقة في الحملات الانتخابية ومسيرات السياسيين تكتسب بمرور الزمن رمزية.
هناك لحظتان في مسيرة ممداني ينبغي التوقف عندها

وهناك لحظتان في مسيرة ممداني ينبغي التوقف عندها. في 2021 أثناء سنته الأولى ممثلاً عن منطقة أستوريا في كوينز، كانت أزمة ديون سائقي سيارات الأجرة في نيويورك ومعاناتهم الاقتصادية قد وصلت إلى مفترق صعب. فبعد رفع القيود من قبل إدارة المليونير مايكل بلومبرغ عمدة نيويورك آنذاك، ارتفعت تكلفة رخصة حيازة سيارة أجرة لتصل إلى 750 ألف دولار، وبأقساط شهرية تفوق 1500 دولار. وهي مبالغ كان يصعب تحصيلها حتى بعد العمل لأكثر من 14 ساعة.

وتصاعدت الأزمة بعد انتحار تسعة من سائقي سيارات الأجرة، فشلت محاولات السواق وممثليهم في اللقاء بآندرو كومو حاكم ولاية نيويورك آنذاك، وخصم ممداني في الانتخابات الأخيرة. وأعلن عدد من السواق والناشطين المتضامنين معهم في مدينة نيويورك إضراباً مفتوحاً عن الطعام حتى الاستجابة لمطالبهم، وانضم ممداني إليهم في اعتصامهم وإضرابهم أمام مبنى بلدية نيويورك، واعتقل معهم.

استمر الإضراب لمدة أسبوعين إلى أن رضخت السلطات واستجابت لمطالبهم وإعفائهم من الديون. لم ينس السواق وقوف ممداني معهم وساندوه في الانتخابات. وأصبح المطلب الرئيسي في نضال السواق واحداً من أركان حملة ممداني: أن تكون نيويورك مدينة يمكن تحمل تكاليفها، بدلاً من أن يجبر الغلاء الفاحش فيها أفواجاً من سكانها على تركها إلى مدن وولايات أخرى وهو ما يحدث منذ سنوات. أما الأركان الأخرى فكانت تجميد الإيجارات، وجعل الباصات مجانية، وتوفير رعاية مجانية للأطفال، وإنشاء أسواق تديرها المدينة لتوفير الغذاء والأساسيات بأسعار معقولة ومدعومة.
أما اللحظة الفارقة الثانية، التي لا تقل أهمية ولا رمزية فقد جاءت أثناء المناظرة بين المرشحين حين سئلوا عن أول بلد سيزورونه بعد انتخاباهم.

وكانت أجوبة الجميع: إسرائيل. (وحتى ممداني كانت استمالة الصوت اليهودي ضرورية للفوز بالمنصب) باستثناء ممداني الذي قال بوضوح لن أسافر إلى أي بلد وسأظل في نيويورك لأتابع احتياجات أهلها وأركز على مطالبهم. لا شك أن مواقف ممداني الداعمة للشعب الفلسطيني، وهو الذي ندد بالإبادة ووعد بإلقاء القبض على نتنياهو، ساهمت في ترسيخ شعبيته ومقبوليته بين الكثير من الشباب اليساري، وبين ذوي الأصول العربية والمسلمين (كما استخدمها خصومه لشيطنته واتهامه بمعاداة السامية ولتخويف الناخبين اليهود)، لكن المهم أيضاً في هذه اللحظة هو الثبات والوضوح في الأولويات والتأكيد على الإصغاء للناس «العاديين» والانتباه لهمومهم ومحنهم، بدلاً من التملّق لأصحاب القوة والنفوذ ورؤوس الأموال. حرص ممداني، وجيش المتطوعين في حملته، الذين وصل عددهم إلى مئة ألف، على أن يذهبوا إلى كل البقاع في نيويورك، وأن يركزوا بالذات على المناطق والشرائح المهمّشة والمنسية. دار ممداني مناطق لم يزرها مرشح أبداً. واستخدمت الحملة أساليب مختلفة وخلّاقة. ونجحت في إخراج أكبر عدد من الناخبين المسجلين للتصويت منذ 1969.

فشلت حملات الشيطنة التي استغلت كل الحيل والاستعارات في قاموس رهاب الإسلام وعنصرية ما بعد الحادي عشر من سبتمبر وصورت ممداني جهادياً متطرفاً. ولم تنجح ملايين الدولارات التي تبرع بها أصحاب البلايين لحملة خصم ممداني، كومو، والتي أنفقت في شراء مساحات لنشر دعايات مغرضة في القنوات وعلى وسائل التواصل. لا شك أن مهمة ممداني وفريقه لن تكون سهلة، فبرنامجه وخطابه وأهدافه تشكل تهديداً للأغنياء ولأصحاب رؤوس الأموال والعقارات وكبريات الشركات، داخل نيويورك وخارجها. وسيفعلون ما بوسعهم لوضع العراقيل ولإفشاله. لن يقلب انتخاب مهاجر اشتراكي مسلم الإمبراطورية رأساً على عقب، لكن يخطئ من يقلل من أهمية ورمزية هذا الحدث وتبعاته.

القدس العربي