مدونات

جرح على جبين الرحالة ليوناردو.. رواية الجرح الناطق

"الجرح كهوية للإنسان"
تدور أحداث رواية جرح على جبين الرحالة ليوناردو للكاتب السوري ثائر الناشف، الصادرة عن الدار العربية للعلوم في النمسا وإيطاليا، مع الشاب الصحفي عيسى الروماني، الذي يتعرّف بالصدفة على رجل نمساوي مسن يُدعى فرانز، فيروي له الأخير جزءا من حكاية ليوناردو، فينتاب عيسى شعور غامض يقوده إلى جرح في جبينه لا يشبه أي جرح سبق أن شاهده.

يصبح الجرح نابضا بالحياة، إذ يتحدث إلى عيسى ويقوده في رحلة عبر الزمن، مستلهما حكاية مؤرخ روماني نبيل وُلد في ميلانو في القرن الرابع عشر، يدعى ليوناردو، وتوثّق جراحه في مخطوطة نادرة مثلما سبق أن أخبره فرانز.

الرواية بين زمنين وشخصيتين:

تمزج الرواية بين السيرة الذاتية المتخيلة والبعد الفلسفي، حيث يستحضر الكاتب شخصية مؤرخ إيطالي يدعى ليوناردو بوصفه رمزا للرحالة الباحث عن الحقيقة.

تمزج الرواية بين السيرة الذاتية المتخيلة والبعد الفلسفي، حيث يستحضر الكاتب شخصية مؤرخ إيطالي يدعى ليوناردو بوصفه رمزا للرحالة الباحث عن الحقيقة

تحمل الرواية كنص أدبي حداثي طابعا تأمليا وفكريا، وتتناول قضايا الإنسان والاغتراب والبحث عن المعنى، مع إسقاطات على الواقع الإنساني، كما تخوض عميقا في طرح الأسئلة الوجودية حول الذات والجرح والحياة والهوية.

يوظّف الناشف شخصيتي ليوناردو وعيسى الروماني رمزيا، ليعكس عبرهما صراع الإنسان مع ذاته والعالم من خلال الجرح، والذي يرمز أساسا للمعاناة الإنسانية التي ترافق رحلة البحث والاكتشاف.

الرواية ليست سردا تاريخيا تقليديا، بل عملا رمزيا وفلسفيا، يجعل من شخصية ليوناردو رحّالة أزليا يبحث عن الحقيقة والمعرفة، إذ يجوب الأزمنة والأمكنة وهو يحمل جرحا -على جبين الشاب المشرقي عيسى الروماني- يرمز إلى أثر التجربة الإنسانية وآلامها.

حالما يلتقي عيسى بجرح ليورنادو الذي هو صوت جرحه الحي، يواجه أسئلة وجودية عن الحياة والزمن، فيطالبه ليوناردو باقتفاء آثاره واتّباع سير رحلاته في الحياة إذا ما أراد أجوبة عليها.

فلسفة الجرح في الرواية:

ليس المقصود بالجرح كما ورد سياق الرواية الإصابة الجسدية، بل علامة على معاناة كل باحث عن النور والمعرفة وسط ظلمات الواقع، وقد تجلّى ذلك كله في سياق المخطوطة التاريخية النادرة، والتي شكّلت حبكة النص وعنصر الإثارة والتشويق المستمر حتى آخر صفحة.

كما أن الجروح الناطقة عبر سلسلة من الحوارات الفلسفية المتقنة، أماطت اللثام عن ماضي شخصيات أصحابها، التي لا أحد يكشفها لغيره في الواقع، فالجرح بهذا المعنى هو نافذة يدخل من خلالها النور، ومن خلالها أيضا نرى هشاشتنا الإنسانية.

لغة الرواية:

تجمع الرواية بين السرد المتعدد الأصوات، كصوت الجرح، صوت البطل، وصدى مخطوطة ليوناردو، مما يخلق تجربة سردية فريدة ومعقّدة، كما تتخللها تأملات فلسفية وشاعرية، ولغة رمزية قوية أكثر من كونها رواية أحداث متسلسلة تقليدية.

يسأل عيسى الجرح مثلما ورد في النص:

"كيف لجرحٍ مرتحلٍ بين الأزمان أنيصعد إلى الحافلة؟ هل تسير الجراح أيضا؟هل تتنفّس؟ هل تنام؟ هل تكذب وتصدق؟هل تفرح وتحزن؟".

الجرح ينبض ويتحدث على امتداد النص، وهذا تصوير مجازي لفكرة أنّ الألم نفسه يمكن أن يكون حيّا في داخلنا، إذ يقول الجرح مخاطبا عيسى الروماني:

"مَا مِن امرئ يحيا بلا جراح؛ إنْ أردتَ أن تكون إنسانا في لحظةٍ من لحظاتِ حياتكَ فلا بُدّ أن تكون صاحب جرح حيٍّ، وإنْ لم تكن الجراحُ حيّة فلن تستطيع أن تشعر بها، فتغدو عندئذٍ جزءا فانيا من جسدِكَ؛ ها أنت ذا أصبحتْ صاحب جرح حيٍّ".

رمزية الجرح في الرواية:

تتميز الرواية بثيمتها الأدبية النادرة التي لم يسبق أن تطرّقت إليها الروايات العربية المعاصرة، ومن الواضح أن الكاتب تعرّض لجرح روحي وآخر فيزيائي بليغ، جعله يفرد مساحة تأمّلية واسعة للتعريف به كفلسفة جديدة في سياق روائي غير تقليدي، من هنا يمكننا فهم معنى ودلالات الرمزية التي سعى إليها الناشف في نطاق السرد من عدة زوايا:

الجرح كرمز للذاكرة، إذ يمثل أثرا لا يزول، كالجراح النفسية التي تتركها الأحداث الكبرى في حياة الإنسان، حتى لو شُفي الجسد، تبقى العلامة شاهدا على الماضي.

يحمل جرحا يميّزه عن غيره، وليس بالضرورة جرحا ماديا، بل تجربة أو فقدا أو ذكرى تحدّد ملامح روحه

الجرح كبصمة زمنية في القصة متصلٌ بمخطوطة قديمة وبأحداث من القرن الرابع عشر، وكأنه جسر بين العصور، أو ختم يسمح للروح أن تتنقل بين الأزمنة.

"إنّ جرحي هو روحي المرتحلة بين الأزمان كُلّها،تذكّر دائما أنَّ للمرءِ جرحين، أحدهمافي الحاضر والآخر في الماضي".

الجرح كهوية للإنسان، فالناشف يوحي بأن كل شخص يحمل جرحا يميّزه عن غيره، وليس بالضرورة جرحا ماديا، بل تجربة أو فقدا أو ذكرى تحدّد ملامح روحه.

بين حاضر عيسى وماضي ليوناردو:

يدرك عيسى في النهاية أن رحلته ليست فقط عن الماضي، بل عن اكتشاف ذاته، وأن الجرح رمزٌ لقبول هويته المكوّنة من الحاضر والماضي معا، في ما يدرك ليوناردو أن المعرفة نفسها هي الرحلة، وأن الجرح علامة على أن الباحث عن النور لا بد أن يدفع ثمنا، لكنه بهذا الثمن يترك أثرا لا يمحى.