مقالات مختارة

تحولات شعوب وحروب «تقودها الحمير»

جيتي
بعد فترة من الحيرة أمام انسداد منافذ التخاطب المعقول مع الرئيس الأمريكي، اكتشف قادة الدول الأوروبية المدخل الذي يذلل الصعاب: إطراء الرجل والثناء عليه وكيل المديح له بما ليس فيه من المناقب والمحاسن. ويبدو أن ماكرون هو أول مكتشفي هذا المدخل أو مخترعي هذه الحيلة، ثم تبعه جميع القادة الأوروبيين على هذا الدرب الذي يبدو أن من سار عليه (ربما) وصل. ليس إلى قلب الرجل طبعا، ولكن إلى مسمعه عساه ينزل من عليائه فيعير المتكلمَ بعض انتباه.

وقد تجلى هذا المسلك في صورة جماعية عند زيارة وفد أوروبي البيت الأبيض الشهر الماضي في أعقاب قمة ألاسكا التي راوغ فيها الوفد الروسي الوفد الأمريكي برشاقة وتركه مكشوفا في عراء التسلل (أوف سايد). وقد بدا أن الجميع صاروا متقنين لفن التملق الذي يرضي غرور المراهق البرتقالي بدءا من اليمينية المتطرفة جورجيا ميلوني التي تتصل بترامب بأكثر من سبب إيديولوجي، مرورا بماكرون الذي تفصله عنه سنوات ضوئية من دقة الفهم ونخبوية الثقافة، بلوغا إلى زيلينسكي المكره أخاك والبطل في آن واحد لأنه استخلص الدرس ولبس البدلة وربطة العنق وصار يعرف كيف يرد على الكاوبوي الأمريكي بالمُلحة والضحكة وخفة الظل.

إلا أن أوسع الأوروبيين حيلة في سباق المديح والإطراء والتملق هذا هم البريطانيون. فقد عرفوا أن ترامب لن يصمد أمام ما لديهم من أسلحة الإغراء الاستعراضي، لهذا سارع كير ستارمر بعد أسابيع فقط من تسلم ترامب المنصب إلى توجيه دعوة له للقيام بزيارة دولة إلى بريطانيا، ليصير بذلك أول رئيس أمريكي تستضيفه المؤسسة الملكية العريقة مرتين. وبما أن زيارة الدولة تتضمن مراسم ملكية باهرة وألوانا زاهية وخيولا مطهّمة وعربات مذهبة وبهرجة طاووسية باذخة أين منها بهرجة الأكاسرة والقياصرة، فإن ترامب ابتهج بالدعوة وظل يتباهى بها. وعندما نزل في ضيافة «صديقي تشارلز الذي صار الآن ملكا»، كان باديا عليه أنه في ذروة النشوة والخيلاء.

وبما أن الرجل مصاب بالعجز التام عن الشعور بالخجل، ناهيك عن مجرد الحرج، فإن الأكيد أنه لم يكترث، وربما لم يعلم أصلا، بالاحتجاجات الشعبية ضده في لندن أو الصور التي عرضت بمشهدية سينمائية على برج قصر وندسور والتي أظهرته بجانب صديقه المتخصص في الاعتداء الجنسي على الأطفال القصّر.

نعم إنه ذلك الرجل «الذي لن أسميه» (كما قالت برلمانية من أعضاء الحزب الديمقراطي الليبرالي تعبيرا عن التقزز من أمثاله) والذي كان عميلا للموساد (وهذا سبب إخماد أنفاسه في سجنه الأمريكي) والذي كانت صديقته في الإجرام عميلة للموساد هي أيضا، تماما كأبيها إمبراطور الإعلام روبرت ماكسويل الذي أقامت له إسرائيل (زمنَ شامير) جنازة رسمية، علما أن المرأة قد أخلي سبيلها في صفقة كان دورها فيها أن تبرئ ساحة ترامب من أي علم بجرائمها هي وصديقها، بل وأن تشيد بطيبة الرئيس واستقامته!

واللافت أن الناشطين الذين بثوا صور ترامب وصديقه مع صور لضحاياه ينتمون لمجموعة احتجاجية اسمها «بقيادة الحمير»! وهذه التسمية الطريفة تحيل إلى عبارة «أُسُود يقودهم حمير» التي شاعت في الثقافة الشعبية البريطانية إبان الحرب العالمية الأولى، حيث تكبد الجنود البريطانيون في العام الأول خسائر فادحة في الأرواح وشاع الرأي بأن السبب هو عدم كفاءة القادة والضباط.

وقبلها استُخدمت العبارة للسخرية من قادة الجيش البريطاني أثناء حرب القرم، وقد تندّر ماركس وإنجلز آنذاك بهذه «النكتة الرائجة في صفوف الجيش الروسي». إلا أن الأرجح، استنادا إلى ما ذكره المؤرخ الروماني بلوتارك، أن أصل العبارة الساخرة إغريقي، وأنه يعود إلى القرن الرابع ق.م. وقد أنشئت مجموعة «بقيادة الحمير» أول الأمر احتجاجا على البركسيت لأن اعتقادها، الذي ظلت الوقائع تثبت صحته، هو أن الكارثة ما كانت لتقع لولا رداءة الساسة الانعزاليين البريطانيين وخذلانهم لشعبهم بديماغوجيا الأباطيل السيادية والأوهام الاقتصادية.

ورغم مراعاة الحساسيات الدبلوماسية، حرص الملك تشارلز في خطابه على تأكيد وجوب أن يواجه الحليفان البريطاني والأمريكي الاستبداد الروسي في هذا القرن تماما مثلما واجها الاستبداد الألماني إبان الحربين العالميتين القرنَ الماضي. ولكن في هذا تغافلا عن حقيقة جلية هي أن ترامب لا يعارض الاستبداد، بل هو يطلبه حثيثا، وأنه لا يصنف الحكام إلى ديمقراطيين وطغاة، وإنما إلى أقوياء يحترمهم ويتقرب إليهم مثل بوتين وجونغ أون، وضعفاء لا يقيم لهم وزنا مثل الحكام العرب.

القدس العربي