قضايا وآراء

لماذا الرعونة المفرطة في أداء السفارات المصرية؟

"التظاهر والاعتصام أمام السفارات والقنصليات، وما يصاحب التظاهر من أعمال رمزية معبرة، كوضع الأقفال ورفع اللافتات ورسم الرسوم وغير ذلك، كلّ ذلك من قبيل الأنشطة المشروعة"- عربي21
ما إن انتهى الشاب المصريّ المقيم في هولندا، أنس حبيب، من وضع الأقفال على باب السفارة المصرية في هولندا؛ حتى رأينا السفارات والقنصليات المصرية في أنحاء العالم تنحدر في أدائها، وتنزلق في ردود أفعالها، وتنغمس بفعالها في لجة من الرعونة والنّزق، وصل الأمر إلى حدّ الاختطاف والتغييب القسريّ داخل مبنى السفارة أو القنصلية. كان آخر ذلك ما وقع مؤخرا في نيويورك، حيث انطلق عناصر أمن القنصلية فاندفعوا خلف متظاهرين أمام المبنى؛ ليقتادوا منهم غلاما حدثا ويحتجزونه بقسوة ووحشية داخل المبنى، ولم يخلصه من أيديهم إلا قوات الشرطة الهولندية التي داهمت القنصلية واستخرجت منها الصبيّ؛ لكونه -وإن كان مصريّ الأصل- أمريكيَّ الجنسية. فهل دخلت الدبلوماسية المصرية في حرب شوارع مع الشباب؟ أم إنّ الرعونة ليس لها سبب من الأسباب المعقولة التي يمكن أن تصاغ في كلمات؟

نقطة نظام قبل الاندفاع للأمام

ليعلم هؤلاء المسئولون ومَن وراءَهم ممن يغترّ بأدائه؛ أنّ التظاهر والاعتصام أمام السفارات والقنصليات، وما يصاحب التظاهر -أو يفترق وينفرد عنه- من أعمال رمزية معبرة، كوضع الأقفال ورفع اللافتات ورسم الرسوم وغير ذلك، كلّ ذلك من قبيل الأنشطة المشروعة التي تعبّر بها الجماهير عن غضبها واعتراضها على أداء الحكومات، ومن الأعمال المشروعة دينا وقانونا وعرفا، وأنّ حرمان الشعوب من أمثال هذه الفعاليات عدوان عليها وتغول على حقوقها، أمّا إلقاء القبض على من يقوم بهذه الأعمال واحتجازه قسريّا فهو عدوان وإجرام قد يصل في شريعة الله إلى مستوى الحرابة التي يكون أحد عناصرها ترويع الآمنين وإخافة السبيل،
عندما يعبر شباب الأمة البسطاء بوسائل سلمية عن غضبهم تجاه هذا الخذلان؛ امتشق فتيان السفارات سيوف الحماقة ورماح النزق والطيش وانطلقوا في الشوارع خلف "شلة" من الشباب الأعزل، فأيّ رعونة هذه؟! إنّ أول ما تختلف فيه وزارة الخارجية عن وزارة الداخلية هو اتسامها باللياقة واللباقة التي غالبا ما تفتقدها أجهزة الداخلية
وفي مواثيق حقوق الإنسان يصل إلى مستوى الإهدار المتعمد والمصادرة الفجة التي تستلزم المحاسبة القانونية، وفي الحسّ الإنسانيّ والعرف البشريّ العام يعدّ بلطجة تستثير حفيظة الشعوب وتحرك غضبها، وليس صحيحا أنّ وضع الأقفال عدوان وتخريب للمؤسسات، وإنّما هو عمل رمزيّ للتعبير عن الرأي.

إلى أيّ سبب يُرَدُّ هذا الارتباك؟

لم تستطع وزارة الخارجية المصرية أن تتعامل بدبلوماسية ناجحة مع أيّ ملفّ من الملفات الثقيلة ذات البعد الاستراتيجيّ المؤثر، بدءا من ملفّ سدّ النهضة، ومرورا بملفات أمن قومي شديدة الخطورة، حيث وقع التفريط في أراض مصرية غاية في الحساسية، وانتهاء بالموقف المريض البغيض المهيض من الحرب الصهيونية الظالمة على غزة، فإلى الآن لم تفلح الخارجية المصريّة في أن يكون لها دور يليق بمكانة مصر في ملفّ طوفان الأقصى وما ترتب عليه من آثار، ولو كانت تعرف حروف الهجاء الأولية للعلاقات الدولية لاستثمرت الأحداث في نقل جميع الملفات المهترئة بين مصر والكيان من منطقة الارتياب والضبابية وغياب العدالة إلى منطقة أكثر وضوحا وشفافية.

فلو لم تمثل لنا حماس إلا مجرد جار لم يقع منه عدوان، ولم تمثل إسرائيل لنا إلا مجرد عدو محتمل في المستقبل -وهذان هما الحدّ الأدنى في تقييم طرفي الصراع المتاخمين لنا- لكان من الواجب انتهاز الفرصة للضغط على الكيان الصهيونيّ؛ من أجل تأمين الحدود بيننا وبين العدو الاستراتيجيّ لمصر وللأمة بأسرها، وكسر كثير من القيود الموضوعة في اتفاقية كامب ديفيد؛ بغرض إحياء سيناء واستثمارها في إحداث نهضة في كل المجالات الزراعية والتعدينية والسياحية وغيرها، ولكان من الواجب دعم المقاومة ولو سرّا؛ لتبقى سدا منيعا وخطّ دفاع متقدم ضدّ أخطر شيء يهدد أمننا القوميّ، ولكان من الممكن فتح المعابر ولو لأوقات يسيرة لدخول قوافل شعبية مصرية؛ لتحقيق أهداف عديدة، منها كسب رضا الشعب والأزهر والمؤسسات الدينية؛ فهذا مما يدعم شرعية النظام ويضمن له بقاء أطول. لكنّ الذي وقع هو إحكام الحصار على الشعب المسلم في غزة، وعدم التحرك ولو بالدبلوماسية تجاه التعدي الصريح من الصهاينة على محور فيلادلفيا.

وفي النهاية عندما يعبر شباب الأمة البسطاء بوسائل سلمية عن غضبهم تجاه هذا الخذلان؛ امتشق فتيان السفارات سيوف الحماقة ورماح النزق والطيش وانطلقوا في الشوارع خلف "شلة" من الشباب الأعزل، فأيّ رعونة هذه؟! إنّ أول ما تختلف فيه وزارة الخارجية عن وزارة الداخلية هو اتسامها باللياقة واللباقة التي غالبا ما تفتقدها أجهزة الداخلية.

أيّهما أقدم وأدوم: المؤسسات أم الأنظمة الحاكمة؟
إذا كانت المؤسسة في جانب من اهتماماتها خدمية، وإذا كان من مهامها احتضان أبناء بلدها المغتربين وحلّ مشكلاتهم؛ فيجب -على الأقلّ- ألا تناصبهم العداء لمجرد أنّهم في خلاف مع النظام الحاكم

السفارات والقنصليات من المؤسسات التي تملكها الأمة وتحوزها الشعوب، والمؤسسات ليست هي الحكومات، فالحكومات تتغير وتتبدل، بينما المؤسسات باقية. فإذا كانت المؤسسة في جانب من اهتماماتها خدمية، وإذا كان من مهامها احتضان أبناء بلدها المغتربين وحلّ مشكلاتهم؛ فيجب -على الأقلّ- ألا تناصبهم العداء لمجرد أنّهم في خلاف مع النظام الحاكم. هذا المعنى وهذا المفهوم من الأمور المقطوع بها في عالم السياسة، فلا يصحّ لمن تبوأ منصبا في سفارة أو قنصلية أن يدفعه حرصه على الوظيفة أو خوفه من رؤسائه أن يغمس نفسه في سلسلة من التفاعلات الغبية التي يجمع العقلاء على استهجانها، أم إنّنا أصبحنا في الغربة نتعامل مع أفرع لأجهزة الأمن التي لا تفهم إلا لغة البطش والإرهاب؟

وإذا كان البعض لا يفهم هذا فلا حيلة لنا فيه، لكن يبقى أنّ نهر الخير في الأمة لم يجفّ، وأن ينابيع الفضيلة فيها لم تنضب؛ فليعلم كلّ من يعي هذا الكلام من المسئولين أنّ الظلم عاقبته وخيمة في الدنيا والآخرة، وحسبُهُ من الخطر أنّ دعوة المظلوم لا تردّ، وأنّها ستحيق به عاجلا أم آجلا، وحسبُه من التذكير أن يتلو قول الله تعالى: "وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ ‌غافِلا ‌عَمَّا ‌يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ" (إبراهيم: 42-45).

أمّا أنتم أيها المناضلون فاستمروا في نضالكم؛ فإنّ أول الغيث قطرة، يكون بعدها السيل الهادر، والله معكم ولن يَتِرَكُمْ أعمالكم.