قضايا وآراء

تفكيك خطاب "الأحياء الراقية"

إنّ اختزال الرّقيّ في جغرافيا الأحياء ليس سوى خداعٍ لغويّ يُنتج خداعًا اجتماعيًا، وإذا استمرّ هذا الوهم في وجدان المجتمع، فإنّه لن يُنتج سوى مزيد من الاغتراب لدى الفقراء ومزيد من الغرور لدى الأغنياء.. (بلدية إسطنبول)
الرقيّ في اللّغة هو الصعود والارتقاء، وهو في الأصل مفهومٌ يشير إلى سموّ الروح وعلوّ القيم وتجاوز سفاسف الحياة نحو المعنى؛ غير أنّ هذا المفهوم ـ وقد جرى في قنوات الاجتماع البشري الحديث ـ أصابه انزياحٌ حادّ؛ إذ لم يعد يُستعمل في فضاء القيم بل غرق في فضاء الجغرافيا؛ فصار "الحيّ الراقي" مقابل "الحيّ الشعبي"، وصارت العمارات والطرقات والإنارة علاماتٍ على الرقيّ، في حين تُرك جوهر الإنسان منسيًّا.

هذا الانزياح ليس لغويًا فحسب بل هو انزياحٌ في بنية الوعي؛ إنّه انتقال من النظر إلى الإنسان بوصفه جوهرًا أخلاقيًّا يُقاس بصفاته وسلوكه، إلى النظر إليه باعتباره نتاجًا مكانيًّا يُقاس بعنوانه وموقع بيته، وهنا يبدأ الخداع؛ حين تُصبح الجغرافيا معيارًا للقيمة، ويُستبعد الإنسان نفسه من ميزان التقييم.

من القيمة إلى العلامة الطبقية

حين تُقال عبارة "حيّ راقٍ" فهي لا تقتصر على وصفٍ عمرانيّ محايد؛ بل تُخفي وراءها حكمًا قيميًا واجتماعيًا، فالمكان يُمنح صفة الرقيّ، وساكنه يرث هذه الصفة بلا استحقاق فرديّ، وهكذا؛ يَسهُل أن يُختزل الإنسان في جدران بيته، وتُرسم حوله هالةٌ من الاحترام أو تُلقى عليه سحابة من الاحتقار، تبعًا للمكان الذي يسكنه.

إنّ أخطر ما في خطاب "الأحياء الراقية" أنّه يُنتج وعيًا زائفًا مزدوجًا؛ فعند ساكني الأحياء المترفة: يُقنِعهم أنّهم أرقى جوهرًا لمجرّد أنّهم أغنى مالًا، فيرتاحون إلى امتيازٍ مُشرعن لغويًا، وعند ساكني الأحياء الفقيرة: يزرع في نفوسهم شعورًا بالنقص، وكأنّ تآكل الجدران وتصدّع الأرصفة دليلٌ على انكسار الروح وانحطاط القيمة.
بهذا المعنى تصبح اللغة أداةً للتمييز الطبقيّ: "الرقيّ" يُصبح علامةً للثراء، و"الشعبية" تُصبح علامةً للفقر، والنتيجة أنّ كلمةً واحدة بريئة في ظاهرها، تنقلب إلى سُلّمٍ للتصنيف الاجتماعي، يرسّخ الامتياز لدى الأغنياء ويُعمّق التهميش لدى الفقراء.

غير أنّ هذا التوصيف لا يقف عند حدّ الوصف بل يتجاوز إلى تشكيل وعيٍ جمعيّ مزيّف، حيث تتحوّل اللغة إلى سلطةٍ تُعيد إنتاج الهُوية.

فالإنسان لا يُرى بما هو فردٌ يمتلك عقلًا وروحًا وخبرةً وتاريخًا بل بما هو "ابن حيٍّ" يحمل معه وصمة أو شرفًا بالوراثة، وهنا نواجه أخطر أشكال الاغتراب؛ أن ينفصل الإنسان عن جوهره، ليُختزل إلى مجرد عنوانٍ في بطاقة، أو إحداثيةٍ على خريطة.

إنّ هذا الانزياح اللغوي يفضح كيف يمكن للخطاب أن يُصنع ليُهيمن؛ فبدل أن تُستعمل الكلمات لبناء العدالة والمساواة، تُستعمل لبناء طبقاتٍ من الوهم الاجتماعي؛ فيصبح "الرقيّ" بضاعةً رمزية، تُشترى وتُباع كما تُشترى الشقق والعقارات بل إنّ الإنسان نفسه يُصبح جزءًا من هذه السلعة؛ لا يُقيَّم بصفاته بل بقدرته على أن ينتمي إلى الحيّ الذي يحمل العلامة المرموقة.

وهنا يتجلّى الخلل الفكريّ؛ إذا كانت قيمة الإنسان تُسحب من خارج ذاته ــ من موقعه الجغرافي ــ فهذا يعني أنّه قد خسر استقلاله الرمزي، وأنّه لم يعُد حرًّا في بناء هويته؛ إذ يظلّ أسير حكمٍ اجتماعيّ يُفرَض عليه مسبقًا، ولعلّ هذا أخطر ما تفعله اللغة حين تتحوّل من أداة للتعبير إلى أداة للهيمنة؛ فهي لا تصف فقط بل تصنع واقعًا وتُقنع الناس بقبوله.

إنّ جعل "الرقيّ" علامةً طبقية يطمس الحقيقة الأصلية؛ أنّ الرقيّ قيمةٌ وجودية مرتبطة بالوعي والسلوك وليس بالمكان والثراء، وبذلك يغدو المجتمع مُدارًا بسطح الكلمات لا بعمق القيم، وتتحوّل اللغة ذاتها إلى شركٍ يغلق على الإنسان بابَ الانعتاق من أحكام الآخرين.

الوهم المزدوج والاستلاب

إنّ أخطر ما في خطاب "الأحياء الراقية" أنّه يُنتج وعيًا زائفًا مزدوجًا؛ فعند ساكني الأحياء المترفة: يُقنِعهم أنّهم أرقى جوهرًا لمجرّد أنّهم أغنى مالًا، فيرتاحون إلى امتيازٍ مُشرعن لغويًا، وعند ساكني الأحياء الفقيرة: يزرع في نفوسهم شعورًا بالنقص، وكأنّ تآكل الجدران وتصدّع الأرصفة دليلٌ على انكسار الروح وانحطاط القيمة.

هنا يتولّد الاستلاب؛ أن يُقنع الإنسان نفسه بأنّه أقلّ شأنًا لأنّه وُلد في "حيّ شعبي"، وأن يستبطن نظرة الآخرين إليه فيحوّلها إلى حقيقةٍ داخلية، وهكذا، يُظلم الفقير مرّتين؛ مرّةً بفقره المادي، ومرّةً بصورةٍ نمطية تسلبه الاعتراف بكرامته الإنسانية.

المفارقة أنّ كثيرًا من الأحياء الموصوفة بالـ"راقية" تنتج أنماطًا من الترف الفارغ أكثر مما تُنتج إنسانًا راقيًا، فالأبنية الشاهقة وإن بدت براقة قد تُخفي خلفها خواءً أخلاقيًا، حيث يُستبدل معنى الاستهلاك بمعنى العطاء، وتُستبدل بقيم التضامن قيم التفاخر.

إنّ ما يُسمّى "الرقيّ العمراني" ليس رقيًا في ذاته؛ هو رفاهية مادية يمكن أن تكون وسيلةً للارتقاء إذا دعمتها القيم، أو قناعًا للخواء إذا خلت من المعنى؛ فكم من قصورٍ زاخرةٍ بالثروة خرّبتها الأنانية، وكم من بيوتٍ متواضعة ملأتها الرحمة فأنارت من حولها.

نقد الخطاب الطبقي

خطاب "الأحياء الراقية" هو خطاب طبقيّ ناعم، يختلف عن التّمييز الصريح، لكنه أكثر خطورة لأنّه يتخفّى في لغةٍ بريئة؛ فحين يُقال "هذا حيّ راقٍ"، يتشكّل في اللاوعي الجمعيّ اعتقادٌ بأنّ ساكنه أرقى من غيره، ويُغفل تمامًا أنّ الرقيّ قيمةٌ شخصية وليست وراثة جغرافية.

إنّ ما يُسمّى "الرقيّ العمراني" ليس رقيًا في ذاته؛ هو رفاهية مادية يمكن أن تكون وسيلةً للارتقاء إذا دعمتها القيم، أو قناعًا للخواء إذا خلت من المعنى؛ فكم من قصورٍ زاخرةٍ بالثروة خرّبتها الأنانية، وكم من بيوتٍ متواضعة ملأتها الرحمة فأنارت من حولها.
إنّه خطابٌ يُعيد إنتاج الاستلاب جيلاً بعد جيل، ويكرّس تقسيمًا داخليًا بين أبناء المجتمع الواحد: "نحن" الراقيون و"هم" الشعبيون، وهكذا يتحوّل الحيّ من مجرد مكانٍ للسكن إلى أداة فرزٍ اجتماعيّ تُعيد هندسة العلاقات الإنسانية على أساسٍ وهميّ.

الحلّ لا يكمن في تبديل التسميات أو إخفاء الفوارق العمرانية إنّما في إعادة تعريف "الرقيّ" ذاته، فالرقيّ الحقيقي ليس في موقع البيت ولا في مساحة الشارع بل في موقع القيمة داخل الإنسان.

الرقيّ أن يُحسن الإنسان التعامل مع الآخرين، أن يُعطي بلا منّ، أن يحفظ كرامة الفقير، أن يعيش في الحيّ المتواضع دون أن يتواضع طموحه، وأن يسكن في البيت الضيق لكن يوسّع قلبه على من حوله.
المكان يُكرَّم بالإنسان لا العكس، ولو كان العمران معيارًا للرقيّ، لكان آل فرعون ومن توارثوا الفرعنة على مرّ العصور من الطغاة والمستبدين أرقى الخلق! ولكن التاريخ سجّل أنّ قصورهم لم تمنحهم قيمة بل كانت شاهدةً على هلاكهم.

إنّ اختزال الرّقيّ في جغرافيا الأحياء ليس سوى خداعٍ لغويّ يُنتج خداعًا اجتماعيًا، وإذا استمرّ هذا الوهم في وجدان المجتمع، فإنّه لن يُنتج سوى مزيد من الاغتراب لدى الفقراء ومزيد من الغرور لدى الأغنياء.

الرقيّ الحقّ أن نُعيد الكلمة إلى معناها الأول؛ أن تكون مرآةً للنفس وليس للحيّ، وأن ترتبط بالقيم لا بالأبنية، وأن تُقاس بصفاء السريرة وليس بصفاء الواجهة.

الحيّ الراقيّ هو الذي يحتضن إنسانًا راقيًا بروحه، ولو كان مُتصدّع الجدران، والحيّ الشعبيّ هو الذي يظلّ عاليًا بكرامة أبنائه، ولو كان مُهمَشًا في نظر الخرائط؛ فحيثما سكن إنسانٌ نقيّ صار المكان أرقى من كل قصرٍ فارغٍ من المعنى.