مدونات

كيف تغلبت الصين استراتيجيا على اعتمادها على النفط؟

"إعادة تشكيل جوهرية للمشهد الجيوسياسي للطاقة"- الأناضول
لعقود طويلة، كان يُنظر إلى شهية الصين التي لا تشبع للنفط الخام على أنها مكمن ضعفها الأبرز، أو "كعب أخيل" الخاص بها. فبصفتها أكبر مستورد للنفط في العالم، كان اقتصادها عرضة بشدة للاضطرابات في سلاسل الإمداد العالمية، وهي نقطة ضعف منحت واشنطن ورقة ضغط استراتيجية هامة. وظلت "معضلة ملقا" (أي احتمالية فرض حصار بحري على المضيق الضيق الذي يمر عبره غالبية واردات الصين النفطية) بمثابة شبح يخيم على تخطيط بكين الاستراتيجي.

أما اليوم، فقد أدت استراتيجية طويلة الأمد، متعددة المحاور وناجحة بشكل ملحوظ، إلى تغيير هذه الديناميكية جذريا. لم تقضِ الصين على حاجتها للنفط بالكامل، لكنها نجحت بشكل منهجي في تنويع مصادرها، والحد من نمو استهلاكها، والهيمنة على تقنيات الطاقة المستقبلية، مما أدى إلى إضعاف أداة ضغط أمريكية رئيسية.

ترتكز هذه النقلة الاستراتيجية على ثلاث ركائز أساسية: تنويع مسارات ومصادر الاستيراد، وحملة ضخمة تقودها الدولة للاستثمار في الطاقة المتجددة، وترسيخ هيمنة عالمية في سوق السيارات الكهربائية.

أدت استراتيجية طويلة الأمد، متعددة المحاور وناجحة بشكل ملحوظ، إلى تغيير هذه الديناميكية جذريا. لم تقضِ الصين على حاجتها للنفط بالكامل، لكنها نجحت بشكل منهجي في تنويع مصادرها، والحد من نمو استهلاكها، والهيمنة على تقنيات الطاقة المستقبلية، مما أدى إلى إضعاف أداة ضغط أمريكية رئيسية

الركيزة الأولى: إزالة المخاطر عن سلاسل الإمداد عبر التنويع

كانت الاستجابة الأولى والمباشرة لمعضلة مضيق ملقا هي التنويع الجريء لموردي الطاقة ومسارات عبورها. عملت بكين استراتيجيا على نسج علاقات طاقة تقلل من اعتمادها على النفط الخام المنقول بحرا من الشرق الأوسط، وبرزت روسيا كشريك محوري في هذه الاستراتيجية. فقبل وقت طويل من اندلاع الحرب في أوكرانيا عام 2022، بدأت الصين الاستثمار في خطوط الأنابيب البرية، مثل خط أنابيب "شرق سيبيريا- المحيط الهادئ" (ESPO). وعقب العقوبات الغربية على موسكو، أمنت الصين النفط الروسي بأسعار مخفضة، لتصبح روسيا الآن أكبر مورد منفرد لها. هذه المسارات البرية محصنة ضد أي حصار بحري، مما يخفف بشكل مباشر من التهديد لأمن طاقتها.

في الوقت نفسه، وسعت الصين شبكة خطوط أنابيبها من آسيا الوسطى، بشكل أساسي للغاز الطبيعي ولكن مع بنية تحتية نفطية أيضا، من خلال "مبادرة الحزام والطريق". ويعد خط أنابيب "الصين- ميانمار" مشروعا حيويا آخر، حيث يوفر مسارا مباشرا للنفط من المحيط الهندي إلى مقاطعة يونان الصينية، متجاوزا مضيق ملقا بالكامل. علاوة على ذلك، زادت بكين وارداتها من دول أمريكا الجنوبية مثل البرازيل ومنتجين أفارقة مثل أنغولا، موزعة بذلك محفظة وارداتها على مناطق جيوسياسية وممرات شحن مختلفة. هذه الشبكة من المصادر والمسارات البديلة تعني أن تعطيل إمدادات الطاقة للصين لم يعد بنفس بساطة السيطرة على ممر بحري واحد.

الركيزة الثانية: القوة العظمى في مجال الطاقة المتجددة

ربما يكون العنصر الأكثر تحولا في استراتيجية الصين هو استثماراتها الهائلة في الطاقة المتجددة. ورغم أن هذا التوجه كان مدفوعا في البداية بمشكلات التلوث الحادة محليا، إلا أن فوائده الجيوسياسية والمتعلقة بأمن الطاقة أصبحت ذات أهمية قصوى. فالصين لا تكتفي بتركيب مصادر الطاقة المتجددة فحسب، بل تصنّعها للعالم بأسره.

إن حجم هذا التحول مذهل. في عام 2023 وحده، زادت الصين قدرتها من الطاقة شمسية بأكبر من إجمالي القدرة القائمة في الولايات المتحدة بأكملها. وهي تستحوذ الآن على أكثر من ثلث إجمالي قدرة طاقة الرياح والطاقة الشمسية المركبة في العالم. وقد أدت براعتها التصنيعية إلى خفض التكلفة العالمية للألواح الشمسية وتوربينات الرياح، مما جعل الطاقة المتجددة قادرة على المنافسة اقتصاديا مع الوقود الأحفوري. ومن خلال توليد حصة متزايدة بسرعة من الكهرباء من موارد محلية لا تنضب مثل الشمس والرياح -مدعومة بالطاقة الكهرومائية الكبيرة وبرنامج طاقة نووية متوسع- تعمل الصين على تقليص طلبها طويل الأجل هيكليا على النفط والغاز المستوردين لتوليد الكهرباء. فكل كيلوواط/ساعة يتم توليده من مصدر محلي هو كيلوواط/ساعة أقل عرضة للتدخل الأجنبي.

الركيزة الثالثة: الهيمنة على مستقبل قطاع النقل

تستهدف الركيزة الثالثة قطاع النقل، الذي يعد أكبر مستهلك للنفط. لقد وضعت الصين نفسها استراتيجيا كقائد عالمي بلا منازع في مجال السيارات الكهربائية. لم يكن هذا نتيجة صدفة في السوق، بل سياسة صناعية مدروسة تم تنفيذها على مدى أكثر من عقد من الزمان، وشملت دعما حكوميا كبيرا، ومنحا بحثية، وتوسيعا للبنية التحتية.

اليوم، تستحوذ الصين على ما يقرب من 60 في المئة من مبيعات السيارات الكهربائية العالمية. ولا تقتصر هيمنة الشركات الصينية مثل "بي واي دي" (BYD) و"سي إيه تي إل" (CATL) على تجميع المركبات فحسب، بل تمتد لتشمل سلسلة التوريد بأكملها، لا سيما في تصنيع البطاريات، المكون الأكثر أهمية في السيارات الكهربائية. ولهذه الهيمنة تداعيات عميقة على الطلب على النفط. فمع وجود أكثر من 20 مليون سيارة كهربائية على طرقاتها الآن، تزيح الصين بشكل دائم حجما كبيرا ومتزايدا من استهلاك البنزين. وتتوقع وكالة الطاقة الدولية (IEA) أن يصل الطلب الصيني على النفط إلى ذروته قبل عام 2030، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى التوجه السريع نحو استخدام المركبات الكهربائية.

نجحت الصين في تحديد نقطة ضعف استراتيجية جوهرية ونفذت استراتيجية صبورة وشاملة وفعالة للتخفيف من وطأتها. فمن خلال تنويع بنية وارداتها، وقيادة ثورة الطاقة المتجددة العالمية، والسيطرة على سوق النقل الكهربائي، لم تكبح بكين "إدمانها للنفط" فحسب، بل أضعفت أيضا إحدى أقوى أدوات النفوذ الجيوسياسي الأمريكية

هذا التحول لا يقتصر على تقليل واردات النفط فحسب، بل يعكس نفوذ القوة الجيوسياسية. فبينما كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها يمتلكون في السابق القوة للتأثير على إمدادات النفط للصين، تكتسب الصين الآن نفوذا على سلاسل التوريد الخاصة بالتحول الأخضر، من البطاريات إلى الألواح الشمسية.

التداعيات الجيوسياسية: نقطة ضغط مثلومة الحدة

إن التأثير التراكمي لهذه الركائز الثلاث هو إعادة تشكيل جوهرية للمشهد الجيوسياسي للطاقة. لقد تضاءلت قدرة الولايات المتحدة على الضغط على الصين من خلال تهديد خطوط مواصلاتها البحرية بشكل كبير. ورغم أن أي حصار سيظل مؤذيا، إلا أنه لم يعد يشكل ذلك التهديد الاقتصادي الوجودي الذي كان عليه قبل 15 عاما، بفضل خطوط الأنابيب البرية وتراجع الاعتماد على النفط في توليد الطاقة والنقل.

علاوة على ذلك، فإن أي عقوبات أمريكية محتملة تستهدف قطاع الطاقة في الصين ستكون أقل فاعلية بكثير. فمع وجود روسيا كمورد ملتزم ومحفظة متنوعة من الشركاء الآخرين، سيكون العثور على مصادر بديلة أقل صعوبة. والأهم من ذلك، أن إنتاج الصين الداخلي للطاقة من المصادر المتجددة يوفر حاجزا قويا ضد الصدمات الخارجية.

لا تزال التحديات قائمة. فالصين، في المدى المنظور، لا تزال أكبر مستورد للنفط في العالم، وستحتاج قطاعاتها الصناعية والبتروكيماوية إلى كميات هائلة من النفط الخام لسنوات قادمة. كما أن التباطؤ الاقتصادي في البلاد قد يختبر التزامها بالنفقات الرأسمالية الضخمة اللازمة للتحول في مجال الطاقة.

ومع ذلك، فإن المسار واضح. لقد نجحت الصين في تحديد نقطة ضعف استراتيجية جوهرية ونفذت استراتيجية صبورة وشاملة وفعالة للتخفيف من وطأتها. فمن خلال تنويع بنية وارداتها، وقيادة ثورة الطاقة المتجددة العالمية، والسيطرة على سوق النقل الكهربائي، لم تكبح بكين "إدمانها للنفط" فحسب، بل أضعفت أيضا إحدى أقوى أدوات النفوذ الجيوسياسي الأمريكية. لم يعد التنافس العالمي على النفوذ يدور حول السيطرة على تدفقات النفط فقط، بل أصبح يتعلق بشكل متزايد بالسيطرة على التقنيات التي ستمد العالم بالطاقة في المستقبل. وفي هذه الساحة، رسخت الصين مكانتها بقوة في قلب هذا النموذج الجديد.