تجرّدَ بعض البشر من إنسانيتهم فحدث هذا:
ـ «مؤسسة
غزة الإنسانية»، وهي جماعة أمريكية غامضة لا يمكن فصلها عن ثقافة الربح الأمريكية والإسرائيلية، تستعين بمرتزقة دوليين لتوزيع مساعدات غذائية على سكان غزة. النجاح الوحيد المؤكد لهذه المؤسسة أنها تحوّلت إلى مصيدة إنسانية، وجنت ملايين الدولارات مقابل قتل مئات الفلسطينيين برصاص الجيش الإسرائيلي أثناء سعيهم للحصول على المساعدات.
ـ الجيش الإسرائيلي ينشر إعلانات تطلب سائقي جرافات لتنفيذ أعمال الهدم في غزة. المقابل: 750 دولارا لهدم بناية من ثلاثة طوابق. ثم يرتفع الثمن كلما كانت البناية أكبر (وفق تحقيق لصحيفة هآرتس الأسبوع الماضي). نتيجة هذه التحفيزات أن أصحاب الشركات وسائقي الجرافات يتسابقون لهدم أكبر عدد من البنايات في أقل وقت ممكن لمضاعفة الدخل.
ـ توني بلير، المسؤول الثاني عن الخراب الأكبر في الشرق الأوسط، مستشار الطغاة ومجرمي الحروب، يسمح لمعهده بالمشاركة في وضع تصورات لخطط أمريكية وإسرائيلية تتضمن تهجير سكان غزة وتحويلها إلى منتجعات وكازينوهات… ريفييرا الشرق الأوسط.
ـ مجموعة بوسطن للاستشارات، واحدة من أكبر شركات الاستشارات في العالم، شاركت في صياغة خطط لتحويل غزة إلى ريفييرا بعد إفراغها من سكانها، مثلما تصوّر الرئيس ترامب وشلَّة المجانين المحيطين به. المجموعة ذاتها أقامت شراكة مع «مؤسسة غزة الإنسانية» التي بسببها وبسبب طريقة عملها قتل الجيش الإسرائيلي مئات الفلسطينيين. جنت «مجموعة بوسطن» في بداية تعاقدها مع المتربّحين من اقتصاد
الإبادة في غزة أكثر من مليون دولار.
بطبيعة الحال لا أحد أقرَّ بما نُسب إليه. مرتزقة «مؤسسة غزة» يُفضلون إلقاء اللوم على الضحايا. الجيش الإسرائيلي نشر الإعلانات لكنه عمل على ألا يراها إلا عدد قليل من الناس. معهد توني بلير ردَّ على الاتهامات بالقول إن التواصل مع الجهات التي بحثت «ريفييرا الشرق الأوسط» لا يعني بالضرورة المشاركة في المشروع. مجموعة بوسطن وافقت على استقالة اثنين من كبار شركائها لكن بمكابرة وزعم أن الاستقالة دليل على روح المسؤولية التي تسود فريقها وليست اعترافا بالذنب.
ما سبق يضاف إلى عقود التسلح التي يرعاها البنتاغون ووزارات الدفاع الأوروبية، والصفقات التي عقدتها شركات التكنولوجيا الدقيقة لتوفير خدمات تُسهّل الإبادة القتل التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في غزة.
مفهوم أن في كل الحروب والكوارث هناك أطرافا تجني أموالا طائلة. اقتصاد الحروب قديم قدم الإنسانية والحروب. شركات الأمن الخاصة في العراق وأفغانستان، وكذلك شركات الخدمات والنقل وغيرها، حققت أرباحا مالية لا تخطر على بال وتمنى مالكوها ومديروها لو استمرت الحرب والمعاناة في البلدين خمسين سنة أخرى. بل إن بعض الحروب يجري التخطيط لها في دوائر مظلمة ثم افتعالها عمدا لجني الأرباح من ورائها. وهناك حروب يتقرر تأخير نهايتها لأن الذين يجنون الأرباح من استمرارها لم يشبعوا بعد، ولأنهم أقوى من السياسيين والجنود الذين يموتون فيها.
السنوات الثلاثون الأخيرة أعطت الانطباع بأن الولايات المتحدة شركة كبرى متعددة الفروع والأذرع تخصصها افتعال الحروب والمصائب ثم الاستفادة من تبعاتها. وأعطت الانطباع أيضا بأن الجيش الأمريكي مجرد كيان اقتصادي يجب أن يواصل الدوران ليستمر تدفق الأرباح. ولتحقيق الأرباح يبيع خدماته من مشاركة غير مباشرة في الحروب وباقي الخدمات التي تتطلبها. الآن في هذه اللحظات يشارك الجيش الأمريكي في إدارة صراعات في أكثر من مكان على وجه الأرض، أقربها إلينا غزة.
لا بأس، فهذا هو جوهر العقيدة الأمريكية منذ اليوم الأول، وصلب العقيدة الرأسمالية. ففي البلدان الغربية كل شيء قابل للمقاولة من الباطن، حتى مراقبة المرور تنازلت عليها البلديات لشركات خاصة همّها الأول والأخير الربح المادي ولتذهب سلاسة المرور في المدن الكبرى إلى الجحيم!
روسيا ليست مختلفة كثيرا. لكن يتوجب القول إن العقيدة الأمريكية الجانحة إلى التنازل عن الحروب إلى متعهدين خواص ومجموعات مرتزقة هي ما ألهَم الروس لتشكيل مجموعة فاغنر ثم «فيلق إفريقيا»، ولا أحد يدري ماذا أيضا، للقيام بأعمال قذرة أسوة بما تفعل الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية.
لكن أن يصل الأمر إلى حد السباق في الاستثمار في الإبادة التي يتعرض لها سكان غزة، والتربّح منها، فهذا أكبر ما بلغته البشرية من انحدار إنساني وأخلاقي.
يحدث هذا دون أن يرف للعالم «المتحضر» جفن، ودون أن تتحرك «قيم» الدول «الديمقراطية» ومؤسساتها. حتى الدول العربية غرقت في صمتها وعجزها. لم يبق هناك إلا بعض الناشطين الغربيين الصامدين.
تُرى ماذا كان هؤلاء الوحوش، الفاعلون وشركاؤهم، سيقولون لو أننا في ذروة الحرب العالمية الثانية ثم نقرأ إعلانات تنشرها السلطات الفرنسية تطلب متعاقدين يوفرون قطارات لشحن يهود فرنسا إلى ألمانيا وأوروبا الشرقية ليلقوا أبشع أنواع القتل. أو سلطات بولندا تطلب متعاقدين لتنظيف أفران الغاز من جثث اليهود وروائح الموت.
قبل الإبادة في غزة كان هناك اقتصاد
الاحتلال والفصل العنصري في الضفة الغربية واقتصاد الحصار على قطاع غزة. إلا أن هذا الاقتصاد فلت من عقاله مع حرب الإبادة الجارية منذ 20 شهرا. لكن ما كان هذا ليبلغ كل هذا المستوى الخطير لولا صمت السياسيين وتنصلهم من مسؤولياتهم السياسية والإنسانية. وقد يكشف التاريخ يوما أن بعض قادة البيت الأبيض الحاليين، ولمَ لا رأسهم، ونظراءهم في أوروبا تربّحوا من الإبادة في غزة وجنوا منها ثروات هائلة.
القدس العربي