تخرج على يديه نخبة من كبار القراء، وعرف عنه دقته البالغة في تعليم الروايات، وحرصه الشديد على ضبط الأسانيد، حتى أصبح مرجعا موثوقا في علم القراءات.
ولم تقتصر مكانته على كونه مُقرئا فحسب، بل امتدت لتجعله مرجعا علميا في علوم القرآن.
وخير الناس من أقبل على تعلم القرآن حفظا وتلاوة وتدبرا، وعلَّمه غيره حفظا وتلاوة وتدبرا، وهذه الخيرية مطلقة لأنها تتعلق بكلام الله الذي هو خير الكلام.
تلاميذه كثر رفض ذكرهم تواضعا لكن التاريخ حفظ بعض الأسماء المؤثرة في مجال القراءات القرآنية التي نهلت من علمه الكثير.
ارتبط اسمه بالمسجد النبوي على مدار عقود طويلة، وكان شاهدا على أجيال متعاقبة من الحفظة وطلاب العلم الذين تتلمذوا على يديه أو تأثروا بمدرسته القرآنية.
ولد الشيخ بشير أحمد صديق في منطقة ليّه بمحافظة مظفر قرح في الهند (باكستان حاليا) عام 1938، ونشأ في بيئة دينية محبة للقرآن فحفظ
القرآن الكريم برواية حفص عن عاصم في سن مبكرة، وواصل دراسته في جامعة "دار العلوم الإسلامية"" بمدينة لاهور، عاصمة محافظة البنجاب، حيث أتقن التجويد والقراءات السبع على أيدي كبار القراء.
اظهار أخبار متعلقة
ثم واصل رحلته العلمية في كراتشي ليتقن القراءات العشر إفرادا من طريق طيبة النشر، إلى جانب دراسته لعلوم النحو.
عين بعد تخرجه مدرسا في الجامعة نفسها، لكنه قرر الهجرة إلى المدينة المنورة عام 1965، وبدأ التدريس في المسجد النبوي الشريف.
وخلال عمله في المسجد، التحق بمجلس شيخ قراء المدينة في ذلك الوقت حتى نال الإجازة في القراءات، ثم اختير للتدريس في معهد القراءات بالمدينة المنورة عام 1967، واستمر فيه خمس سنوات قبل أن يعين مديرا للمعهد.
إلى جانب عمله في المملكة العربية
السعودية، كان للشيخ نشاط كبير في دول متعددة من أوروبا وآسيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث أشرف على مدارس تحفيظ القرآن الكريم وصحح قراءات المعلمين فيها.
أسس الشيخ صديق مدرسة قرآنية تقدم تعليم القرآن الكريم بأحكامه بدقة، وتعليم الروايات المختلفة والإجازات في علم القراءات، فكانت مقصدا للطلاب من كافة أنحاء العالم، وتخرج منها قراء شهيرة من أبرزهم، الشيخ محمد أيوب الذي تولى إمامة المسجد النبوي الشريف في فترة سابقة، والشيخ علي جابر الذي أصبح إمام في المسجد الحرام في مكة.
وبمؤلفاته وأسلوبه الفريد في التعليم أسس مدرسة علمية متينة، تقوم على احترام النص القرآني وضبط الأداء وتوريث العلم بإتقان.
كان الشيخ صديق مثالا لكثير من القراء والمشايخ حول العالم، حيث عرف بـ"
شيخ القراء"، وذلك لأنه شكل نموذجا للعلم المتقن والتواضع في رجل واحد، فقد حرص الشيخ على تعليم الكبار والصغار دون تفرقة، بابتسامته وقربه من الناس، مما رسخ في نفوس تلاميذه حب القرآن الكريم.
ترك بصمة فريدة في علم القرآن، وأسهم في تخريج جيل من القراء حمل رسالته إلى أنحاء العالم، بعد مسيرة علمية لها أثر كبير في تخريج قراء متميزين حافظين ليبقى اسمه رمزا للعلم والإتقان.
كما ساهم في إثراء المكتبة الإسلامية بمؤلفات وتحقيقات في علم القراءات، كما سجل القرآن الكريم برواية ورش عن نافع، ليبقى أثره ممتدا بين دفتي الكتب وأصوات التلاوات. ومن مؤلفاته: " أوضح المعالم في قراءة الإمام عاصم برواية شعبة"، و "جامع المنافع في قراءة الإمام نافع برواية قالون، وبرواية ورش"، و "الكوكب المنير في قراءة ابن كثير".
اظهار أخبار متعلقة
برحيل الشيخ صديق، سفير المدرسة القرآنية الحجازية بصوته وأدائه، وشيخ القراء في المسجد النبوي عن عمر ناهز 90 عاما قضى منها أكثر من 60 عاما وهو يقرأ بالمسجد النبوي الشريف، فقدت الأمة الإسلامية واحدا من أبرز أعلامها في مجال القرآن الكريم، وهي لحظة مؤثرة في تاريخ التعليم القرآني.
وبحسب ما أعلنه المقربون من عائلته، فإن وفاة الشيخ بشير أحمد صديق جاءت بعد معاناة طبيعية مع أمراض الشيخوخة، حيث تجاوز التسعين عاما. إذ لم يسجل عن الشيخ معاناته من أمراض مزمنة خطيرة، لكن تقدمه في العمر وما رافقه من ضعف صحي كان السبب الرئيسي في وفاته قبل يومين.
وري جثمانه الثرى في مقبرة بقيع الغرقد التاريخية بالمدينة المنورة، بجوار عدد كبير من الصحابة والتابعين والعلماء وهو ما يشير إلى مكانته العلمية. وكتب أحد طلابه ناعيا له: "رحل من كان يعلمنا كيف نجيد التلاوة، وكيف نجيد الأدب مع القرآن، ومع أهل"، وقد نعته المؤسسات الدينية والعلماء والقراء في مختلف الدول الإسلامية.
رحل الشيخ بعد أن ارتبط اسمه بالأذان وتلاوة القرآن في المحافل والمناسبات الدينية الكبرى، وكان له دور بارز في إحياء ليالي رمضان وختمت القرآن في الحرم الشريف. وتاركا أثرا عميقا في نفوس الملايين من المصلين الذين استمعوا إليه، وفي قلوب محبيه الذين عرفوه بصفاء صوته وصدق تلاوته.
وقد سبقته تلاوة القرآن التي هي نور لصاحبه في الأرض وذخر له في السماء.