بموازاة الحرب العدوانية التي يشنها
الاحتلال على قطاع غزة، ثمة حرب أخرى تدور رحاها في
الضفة الغربية، حرب أقل ضجيجا، أقل تغطية إعلامية، لكنها لا تقل خطورة على الشعب الفلسطيني ومستقبل القضية الفلسطينية.
وقبل استعراض ما يجري على أرض الضفة يجدر التأكيد أن كل ما يفعله الاحتلال الآن من قتل واعتقال وهدم بيوت ومصادرة أراضٍ واستيطان.. كان يفعله منذ اليوم التالي للنكسة، لكن بوتيرة بطيئة وشبه صامتة، وبنهج دؤوب ومستمر ومتصاعد.. لكنه لم يكن مسارا وحيدا وحتميا، كانت لديه بدائل كثيرة وقد جربها، بعد السابع من أكتوبر، أحس أنه إزاء فرصة تاريخية لتصويب «أخطاء» المؤسسين الأوائل، وإحداث التغييرات المطلوبة بسرعة وبشكل علني وبمنتهى الوحشية.
على مسارات متوازية، وبخطى مدروسة بعناية، وبشكل سافر، يقوم الاحتلال بتنفيذ مخططات قديمة، هدفها الرئيس خلق مقدمات التهجير، ومصادرة أكبر مساحات ممكنة من الأراضي، وتفريغها من السكان، وإكمال المشروع
الاستيطاني، لخلق وتثبيت وقائع بالقوة القهرية بحيث تمنع قيام دولة فلسطينية، وتخنق الحلم الفلسطيني بالتحرر من الاحتلال ونيل الاستقلال، وعلى مدى أبعد بما يؤدي إلى تهجير القسم الأكبر من سكان الضفة، وحصر من تبقى منهم في تجمعات سكنية (بانتوستونات) معزولة ومحاصرة، تحكمها عشائر وبلديات مرتبطة بالاحتلال، وتحويل القضية إلى مشكلة سكانية، وبالتالي تصفية القضية الفلسطينية نهائيا.
في مسار حل قضية اللاجئين وإنهاء حق العودة، يكمل الاحتلال حربه على المخيمات وعلى وكالة الغوث باعتبارهما الشاهد الأقوى على قضية اللاجئين وحق العودة.. بدأ بمخيمات الشمال (جنين وطولكرم)، اجتاحها بقوات عسكرية كبيرة، وأجبر سكانها على النزوح إلى المدن والبلدات المجاورة، ثم شرع بهدم مئات البيوت منها، وشق شوارع واسعة في قلبها، وإعادة هندستها بحيث تفقد هوية المخيم، وفي أحسن الأحوال تصبح مجرد حي من أحياء المدينة.
ويواصل عدوانه على بقية مخيمات الضفة، من خلال الاقتحامات، بحجة اعتقال مطلوبين، أو هدم بيوت «غير مرخصة» على أطراف المخيم، استعدادا لاستكمال ما بدأه في مخيمات الشمال.
في مسار موازٍ، يشن الاحتلال حربه على الريف الفلسطيني، مستهدفا القرى القريبة من التجمعات الاستيطانية، مستعينا بقطعان المستوطنين المنفلتة والمتوحشة في هجمات إرهابية يرعاها الجيش ويوفر لها الحماية، حيث يقومون بالاعتداء على القرى، وحرق البيوت والسيارات والمزروعات واقتلاع أشجار الزيتون والاعتداء على المواطنين وترويعهم، حتى في بيوتهم.
وتفتقت عقلية التوحش والاستيطان عن ابتداع ما يسمى «الاستيطان الرعوي»، حيث يقوم المستوطنون برعي قطعان الماشية في الأراضي الفلسطينية دون أي اعتبار لملكيتها وما فيها من محاصيل ومزروعات، لديهم «درون» وكلاب واتصال مباشر مع الجيش بحيث يؤمن لهم الحماية السريعة، وتحت هذه الذريعة يقومون بالاستيلاء على الأراضي، وتقييد حركة الناس، بما في ذلك فرض حظر التجول على بعض القرى.
كما صعد الاحتلال من استهدافه للمناطق النائية خاصة في الأغوار والسفوح الشرقية وما يسميها مناطق (C) من خلال مصادرة أراضٍ بحجة تحويلها إلى معسكرات وميادين تدريب، وأيضا ردم الآبار، وهدم البركسات وحرق المحاصيل الزراعية وحتى قتل الماشية والتضييق على السكان بما يؤدي إلى طرد التجمعات البدوية وإجبارها على النزوح.
الخطوة الأخطر في هذا المسار، تنفيذ مخطط «E1» الهادف إلى خلق جيب استيطاني يمتد من القدس حتى الحدود الأردنية شرقا، ثم شمالا في الأغوار، بما يؤدي إلى تقسيم الضفة الغربية وقطع تواصلها الجغرافي، وخنقها بين المستوطنات والجدار. إضافة إلى 980 حاجزا عسكريا منتشرة في عموم الضفة، ووضع بوابات حديدية على مدخل كل قرية وبلدة ومدينة يغلقها الاحتلال ويفتحها بحسب مزاجه.
التنقل بين المناطق الفلسطينية أصبح رحلة محفوفة بالمخاطر، أقلها التأخير لساعات وسط ازدحامات خانقة والوقوف عند الحواجز وتلقي معاملة مذلة ومهينة، وأخطرها القتل لأتفه الأسباب، فلو ضل أحد الطريق، وسلك طريقا فيه مستوطنة، أو توقف لأمر طارئ من الممكن جدا أن يتلقى رصاصة تنهي حياته، وقد وقعت عشرات حوادث القتل من هذا النوع.
في الوقت ذاته، يشن الاحتلال حربا اقتصادية على الفلسطينيين؛ من خلال الحصار المالي وفرض رقابة مشددة على حركة الأموال، وتقييد عمل البنوك، وسرقة محال الصرافة بحجة تمويل الإرهاب، والأهم قرصنة عوائد الضرائب واقتطاع الأموال المخصصة لقطاع غزة، ولرواتب أسر الشهداء والأسرى، واقتطاع أموال لصالح كل إسرائيلي يرفع دعوى قضائية ضد السلطة، بما في ذلك الجواسيس.. كما صعدت من حربها الاقتصادية من خلال اختلاق ما عرف بأزمة تكدس الشيكل، وتقنين دخول البضائع والوقود، ما خلق أزمات مركبة.. وفي الأشهر الثلاثة الأخيرة، صادرت كامل أموال المقاصة، وتركت السلطة وسط أزمة مالية خانقة لدرجة أنها لم تعد قادرة على القيام بواجباتها، ودفع رواتب الموظفين، الذين يتلقون أقل من 70% من رواتبهم منذ أربع سنوات.
لا يجتمع اثنان أو أكثر ولو لدقائق قليلة إلا ويتحدثون عن الأزمات الخانقة
ومنذ بدء العدوان، منعت إسرائيل نحو 140 ألف عامل من التوجه إلى أماكن عملهم داخل الخط الأخضر، ما زاد من نسبة البطالة لدرجة مرعبة، ومع الحواجز العسكرية والبوابات وإغلاق المدن المتكرر والاجتياحات وإرهاب المستوطنين، وعدم تلقي الموظفين رواتبهم وتفاقم الأزمة الاقتصادية وصلت الأمور إلى حد مخيف، ولا يُحتمل.. حتى أن القطاع الخاص تأثر بشكل كبير وخطير، بما يوصله إلى حدود الانهيار، أو يبقيه عند حافة الهاوية.
لا يجتمع اثنان أو أكثر ولو لدقائق قليلة إلا ويتحدثون عن الأزمات الخانقة، وعن سوء الأوضاع، وعن تعديات المستوطنين، وعن الشوارع الالتفافية، والإذلال على الحواجز، وعن تأخر الرواتب، عن تدهور الأوضاع من سيئ إلى أسوأ، عن حالات الجوع والفقر.. حالة من السخط والغضب والتذمر والقلق والرعب من المستقبل، وصلت عند البعض حدود اليأس والتفكير بالرحيل.
الجميع يشعر بالعجز.. والحيرة.. الجميع ينتظر، ولا نعرف بالضبط ماذا ننتظر: تحسُّن الأوضاع وفتح أفق سياسي؟ أم ننتظر الخازوق الأكبر؟ والسيناريو الأسوأ؟
أين السلطة؟ وأين «فتح»؟ وسائر الفصائل؟ أين منظمات المجتمع المدني، وقواه وفعالياته ومؤسساته ونقاباته؟ أين الجماهير؟ ما هو المطلوب؟ وما هو المتاح والممكن؟ إلى متى ستستمر الكارثة؟ ما هي صورة المستقبل؟ «لوين رايحين»؟
أسئلة مشروعة وملحة وتحتاج إجابات متأنية وصادقة.. سنناقشها في مقالات قادمة.
الأيام الفلسطينية