كشف تحقيق
أجرته شبكة "
بي بي سي"، عن عصابة تهريب نشطة تنفذ عمليات لنقل الأشخاص
عبر القناة الإنجليزية باستخدام قوارب صغيرة، وتأتي هذه النتائج بعد أشهر من العمل
الميداني السري وتحديدا منذ نيسان/ أبريل عام 2024، حيث تقمص عدد من الصحفيين هويات
مزيفة متعددة للإيقاع بالمهربين، وهو ما مكن من رسم صورة دقيقة لبنية العصابة
المعقدة وطرقها الفعّالة للإفلات من الشرطة.
وقالت الشبكة إن مراسل صحفي ساعدها في إنجاز التحقيق عبر التظاهر بأنه مهاجر يحاول عبور القناة،
وتمكن من التسلل إلى مخبأ معروف للمهربين داخل غابة في شمال
فرنسا، وهي منطقة تشهد
اشتباكات مسلحة متكررة بين عصابات متنافسة.
اظهار أخبار متعلقة
وكشفت
لقطات سرية صُوّرت في إحدى محطات القطارات الرئيسية في المملكة المتحدة، عن أعضاء
العصابة وهم يتلقون أموالاً نقدية مقابل تأمين أماكن للمهاجرين خلال عمليات عبور
غير قانونية للقناة، ومنها محطة (نيو ستريت) في برمنغهام.
وذكرت مصادر عدة أن زعماء العصابات، الذين يتهربون من الاعتقال عبر تغيير أرقام هواتفهم المحمولة
وأسماء عصاباتهم باستمرار، استخدموا العنف الجسدي ضد أتباعهم وضد
المهاجرين.
الشرطة والعصابات..
لعبة "القط والفأر"
وخلال عمليات
البحث والتقصي، استطاع فريق الشبكة المعني بالتعرف على هوية ثلاثة رجال، جميعهم من
الأكراد العراقيين، يُعتقد أنهم يتزعمون إحدى المجموعات الرئيسية في شمال فرنسا
المسؤولة عن تهريب الأشخاص إلى المملكة المتحدة باستخدام القوارب الصغيرة، فضلا عن
شخصين آخرين أعضاء في العصابة يُدعى الأول عبد الله والثاني بيشا، تم رصدهما وهما
يأخذان مجموعات من المهاجرين نحو القوارب، قبل أن ينتهي المطاف بـ"بيشا"
في مأوى للمهاجرين في غرب يوركشاير بعد تقديمه طلبا للجوء.
وتطرق تحقيق
الشبكة البريطانية الإخبارية، كيف تحدث المهرب عبد الله مع مراسلها المتخفي بابتسامة
مطمئنة تشبه ابتسامة موظف طيران، قائلا:" مرحباً بكم في الإقامة هنا، سنجهز
قارباً وننطلق إلى البحر سريعاً، يجب أن نتحرك مبكراً لتفادي الشرطة، إنها لعبة
القط والفأر"، واستدرك: "بإذن الله، سيكون الطقس لصالحنا"، مشيراً
إلى مجموعة من الخيام المخفية في أعماق غابة قرب ميناء دونكيرك في فرنسا بالقول: "لا
يوجد خطر هنا".
وأوضح عبد
الله أن الرحلة عبر القناة ستضم عدداً من "الصوماليين والسودانيين والأكراد
وغيرهم"، متفاخراً بنجاح رحلتين في الأسبوع السابق، كان على متن كل منهما 55
شخصا.
مراسل بي بي
سي الذي يتحدث اللغة العربية، كان يحمل كاميرا خفية ويتظاهر بأنه مهاجر سوري، سأل
المهرب: "هل يجب أن أحضر سترة نجاة" فأجاب عبد الله: "هذا الأمر
يعود لك"، فيما حاول عبد الله إقناع فريق إعداد التقرير بأنه مجرد شخص يائس
يسعى للوصول إلى المملكة المتحدة، وليس مهرباً يكسب مئات الآلاف من الجنيهات
الإسترلينية من خلال تعريض أرواح الناس للخطر في القناة.
الغابات..
ساحات لعصابات تهريب البشر
وخلال صورة
جوية التقطتها طائرة بدون طيار لمخيم المهاجرين قرب دونكيرك، أظهرت وجود مساحات
خضراء واسعة، ثم فسحة في الوسط حيث يمكن رؤية الخيام، فيما يقع مخبأ العصابة داخل
الغابة بين الأشجار، بالقرب من ميناء دونكيرك في فرنسا، ويتخللها ممرات رملية
ضيقة، تقع بجانب طريق رئيسي وقناة كبيرة وخط سكة حديد، على بُعد حوالي 4 كيلومترات
من الساحل الفرنسي.
اظهار أخبار متعلقة
وتعد منطقة الغابات
ساحة لتنافس عصابات التهريب الذين يختبئون فيها من الشرطة الفرنسية على مدار
السنين، حيث يراقب حراس العصابات كل مدخل محتمل بحذر شديد، كما لا تُعد المعارك
بالأسلحة النارية والطعنات القاتلة أمراً نادراً هنا، خاصةً خلال فصل الصيف، حيث
تقوم العصابات بتسوية حساباتها والتنافس على تجارة تهريب البشر بالقوارب الصغيرة،
التي تعتبر مربحة.
تُعد عصابة
"عبد الله" في شمال فرنسا، واحدة من أربع عصابات، تدير حالياً المعابر
ومناطق الانطلاق، بدلاً من الاكتفاء بتوفير الركاب كما تفعل العديد من العصابات
الأصغر حجماً، وكان عبد الله، مقرّباً من شخصية ذات مكانة أعلى منه، أنيق المظهر،
ودوداً، ويتواصل هاتفياً باستمرار مع عملائه، كما بدا عليه الارتياح التام داخل
الغابة، مبتسما ومعلقاً: "لا تقلق"، بينما رفض زميلنا المتخفي عرض
الإقامة لليلة في المخيم وغادر المكان.
أعضاء عصابة
الـ"جبل" مواطنون من إقليم كردستان العراق
فرق الشبكة،
قال إنه عندما بدأ التحقيق بشأن العصابة، علم أنها تُعرف باسم "الجبل"،
واستخدمت الاسم عند استلام المدفوعات، وفق ما سمعه من الأشخاص الذين كانوا على متن
قارب سارة الذي تعرّض للغرق، ليتضح فيما بعد أن جبل هو أيضاً اسم أحد زعماء العصابة،
وجميعهم ينتمون إلى نفس المنطقة في إقليم كردستان العراق، بالقرب من مدينة
السليمانية، حيث كان جبل مسؤولاً عن اللوجستيات من بلجيكا وفرنسا، فضلا عن رجل آخر
يُدعى آرام، قضى وقتاً في أوروبا ويبدو أنه عاد الآن إلى العراق، وربما كان أكثر
تورطاً في جذب عملاء جدد، أما الزعيم الثالث، الأكثر غموضاً بينهم، فكان يُعرف
باسم "الملة"، ويبدو أنه كان يدير العمليات المالية للعصابة.
في حزيران/ يونيو
2024، تتبع فريق الـ"بي بي سي"، جبل إلى مركز استقبال المهاجرين في
لوكسمبورغ وقام بمواجهته في الشارع، غير أنه أنكر تورطه في أي نشاط، ورغم إبلاغ الشرطة
الفرنسية فوراً، إلا أنه اختفى بسرعة، حيث قال رئيس وحدة مكافحة التهريب في الشرطة
الفرنسية، كزافييه ديلريو، إنه "هرب بعد تدخلكم في لوكسمبورغ، وغير رقم
هاتفه، وربما غادر البلاد, مكانه الحالي مجهول، والتحقيق لا يزال جاريا"، وأضاف
ديلريو: "ما دام الأمر مربحاً، فسيستمرون"، كما أقرّ المدعي العام
الرئيسي في محكمة الاستئناف الإقليمية لشمال فرنسا، باسكال ماركونفيل، بأن
"الأمر أشبه بلعبة الشطرنج. وهم يتفوقون علينا في اللعبة. لذا، فهم دائماً
متقدمون علينا بخطوة".
تمزيق القوارب
المطاطية وسيلة لوقف التهرييب
وأخبر مصدر في
الشرطة فريق تحقيق الشبكة بأن نحو نصف القوارب الصغيرة التي تعبر القناة
الإنجليزية تُعرف الآن باسم "قوارب الأجرة"، إذ تنطلق بعدد قليل من
الركاب، أو حتى من دون ركّاب، وفي سرية تامة، لتبحر بالقرب من الساحل وتُقلّ من
ينتظرون في المياه الضحلة، لافتا إلى تقطيع القوارب المطاطية بالسكاكين قبل وصولها
إلى البحر، أصبح الوسيلة الرئيسية التي تستخدمها الشرطة لمنع انطلاقها، ونتيجة
لذلك، بدأت العصابات في تغيير أساليبها.
اظهار أخبار متعلقة
من جهة أخرى،
كشف التحقيق عن وجود تعاطف من بعض عناصر الشرطة، فخلال إحدى الليالي رُصد اقتراب اثنان
من عناصر الشرطة الفرنسي لمجموعة من المهاجرين بين الأشجار، فاقتربا ببطء، وكان
أحد الضابطين، وهو الأصغر سناً، يحمل عبوة من رذاذ الفلفل في يده اليمنى، وقد بدت
أنظار الجميع متجهة إليها، وسأل الضابط الأكبر بالإنجليزية: "نساء وأطفال"؟
وبدأ يتنقل بين المهاجرين ويعدّهم، فختم الضابط حديثه بالقول: "15 امرأة، و40
شخصاً بالمجمل"، ثم ودعهم بلطف قائلاً: "حظاً سعيدا"
هل يستطيع
ستارمر الوفاء بوعده والقضاء على العصابات
وأفضى تحقيق الشبكة إلى أن
النتائج تعد تقييماً مقلقاً، وهو يُظهر مدى صعوبة قدرة رئيس الوزراء البريطاني كير
ستارمر على الوفاء بوعده بالقضاء على العصابات، رغم أنه سبق وأكد ستارمر أن
البرنامج التجريبي البريطاني - الفرنسي الحالي المعروف بـ"دخول واحد، خروج
واحد" سيُسفر عن نتائج ملموسة، وسيسمح الاتفاق باحتجاز بعض الأشخاص الذين
يصلون على متن قوارب صغيرة وإعادتهم إلى فرنسا.