يبدو أن
السلطات
المصرية بتدشينها "القائمة الوطنية" لخوض
انتخابات مجلسي الشيوخ
والنواب؛ قررت حرمان الغلابة أحفاد الغلابة وأولاد الغلابة من المصريين هذه المرة
من خيرات السادة الطامحين في كرسي البرلمان، رغم أنهم في أكثر الأوقات احتياجا إلى
كيس 80 جراما من السكر (40-50 جنيها)، وربع باكو شاي العروسة (50 جنيها)، وزجاجة
90 لترا من الزيت (90-150 جنيها)، وعبوة 40 جرام من المكرونة (30- 40 جنيها)،
وكيلو لحمة (350 جنيها)، أو فرخة بـ200 جنيه.
فإلى جانب
50 جنيها، كانت هذه هي مكونات العرض غير الأخلاقي الذي كان يبيع مقابله فقراء
المصريين أصواتهم لمُحدَثي السياسة واللاهثين خلف كرسي البرلمان وعالم الشهرة
والأضواء، والتائبين في العلن عن جرائم جمع المال من الجيوب والخزنات والمخازن
الأهلية والحكومية، وعبر تجارات شرعية تزدهر من قوت الغلابة، وغير شرعية تزدهر من
ضياع عقول المدمنين وجيوب التافهين، ومن التجارة بآثار مصر، ومن دم أبنائها الذين
تقتلهم رصاصات الأسلحة المهربة.
في العام
2010، أذهلني دخول أحد رجل رجال الأعمال المبتدئين صراع الحصول على كرسي البرلمان،
عندها دفع الرجل لرجالات الفساد في الحزب الوطني أموالا كثيرة قيل حينها 250 ألف
جنيه أو نصف مليون جنيه، ليضمن "رضا الناس فوق".
وليضمن
أصوات "الناس تحت"؛ خصص الرجل عدة دورات من إنتاج مزارعه المنتشرة في
محافظة الشرقية (شمال شرق القاهرة)، وأعلن حينها شعار: "فرخة لكل
مواطن"، حيث كانت تسبق قدوم موكبه لأي قرية أو عزبة أو كفر سيارات نقل ورجال
يقفون أمام كل شارع وحارة يوزعون الدجاج على كل مواطن له حق الانتخاب.
هاصت
الناس حينها وشبعت من لحم الدجاج ومصمصت عظامه، وصنعت النساء لأزواجهن الشوربة
المتينة ومر عليهن أجمل أيام الخميس وليالي الجمعة.
أذهلني
حينها ترويج أساتذة ومعلمين وموظفين محترمين للرجل أبو فرخة، بينما لم يسأله أحدهم
ما هو برنامجك الانتخابي؟ وكيف ستخدم الغلابة؟ حينها قال لي أحدهم: "لا تلمني
فراتبي لا يصل إلى 200 جنيه، بعد 10 سنوات خدمة في التربية والتعليم".
صدقت وعود
"الناس اللي فوق"، و"الناس اللي تحت"، ونجح الرجل في كانون
الأول/ ديسمبر 2010، ودخل قاعة مجلس الشعب إلى جانب رئيس المجلس أحمد فتحى سرور،
والوزير يوسف بطرس غالي، ورجل الأعمال المقرب من مبارك وابنيه أحمد عز، مهندس تلك
الانتخابات، وغيرهم من أباطرة البرلمان ووارثيه كابرا عن كابر.
لكن الحظ
لم يمهل الرجل سوى نحو شهر واحد وعدة أيام، حيث تفجرت ثورة 25 يناير 2011، وأطاحت
بحسني مبارك ورجاله وبرلمانه، ليسقط الرجل لاحقا ويغادر دنيانا فقيرا مديونا كما
دخلها بلا مال.
وبعيدا عن
حكاية "فرخة لكل مواطن"، فقدَ الغلابة مصدر نعنشتهم ورواجهم في مواسم
الانتخابات التي غابت عنها المنافسة هذه المرة وحسمها النظام بضربة قاصمة؛ ليضمن
جلوس 100 عضو في مجلس الشيوخ عبر القائمة المغلقة بلا منافس، ومعها 100 عضو آخرين
يعيّنهم رأس النظام، ليتبقى انتخاب 100 عضو فقط في دوائر واسعة لن تغني الفقراء من
ضيق ولن تشبعهم من جوع.
تسألني:
وما أهمية هذا الأمر؟ أقول لك لقد أوصل هذا النظام الطبقة الأدنى من الطبقة الوسطى
لكي تبحث وتلهث وتجري حول وخلف وأمام سيارات السادة
المرشحين، وتقف بالساعات أمام
مقرات حزب مستقبل وطن، في انتخابات رئاسة 2014 و2018، وفي برلمانيات 2015 و2020،
وفي استفتاء الدستور (2019)، ليحصلوا على كرتونة ومبلغ 200 جنيه، بعد ترك بطاقاتهم
الشخصية والحصول عليها أمام لجنة الانتخابات لضمان حضورهم للتصويت.
شخصيا
رأيت مديري ومديرات مدارس وهيئات حكومية ومهندسين ومديري إدارات يجمعون بطاقات
الرقم القومي من العاملين لديهم، وتسليمها لمقرات مستقبل وطن. بل رأيت سيدات لم
يعرفن يوما طعم الحاجة وذل
الفقر يتسابقن للحصول على الكرتونة ومبلغ مائتي جنيه،
بل رأيت سيدات محترمات يتسابقن على جمع البطاقات من الجيران والشارع والأهل لتزيد
حصتهن من الكراتين والمال، بل كن من أوائل الواقفات أمام اللجان لأجل إثبات الولاء
ولتثبيت أنفسهن بأدوار جديدة في الانتخابات المقبلة، أو عند حشد النظام لهن إلى
استاد القاهرة أو أمام معبر رفح في مناسبات مختلفة مقابل وجبة وتشيرت وعلم، ولا
تنسى زجاجة مياه وعصير و200 جنيه.
فهمت يا صديقي
لِمَ سيحزن مصريون كثيرون من غياب المنافسة في انتخابات البرلمان المقبلة الشهر
المقبل للشيوخ وفي الخريف للنواب؟
سمعت سيدة
تقول مازحة: منهم لله الإخوان لو مكنوش اتسجنوا كانوا نزلوا الانتخابات، ولقينا
الكراتين بتتوزع في الشوارع".
شخصيا،
ورغم نحو 55 عاما، لم أحصل على بطاقة انتخابية، وبالتالي لم أحصل على الفرخة ولا
الكرتونة، وكنت في عداء تام مع كل مرشح يأتي قريتي وأنا صغير، بل قمت بتمزيق دعاية
أحدهم وهو عتيد في البرلمان وورث مقعده عن أبيه وأجداده؛ أمام عينيه ووسط مؤيديه.
وكان
صديقي الدكتور "ش. ع"، من أشد المتفائلين عقب ثورة يناير، حيث دعاني
للذهاب إلى قسم الشرطة لاستخراج بطاقة انتخابية أملا منه في مستقبل باهر، ولكني
خلفت موعدي معه قاصدا، وقلت له لن تستخدمها طويلا يا صديقي.
حصل صديقي
على البطاقة بعد استجواب طويل ورفض قابله بإصرار، فتم فتح ملف أمني له، وكان من
أوائل من تم إلقاء القبض عليهم عقب 3 تموز/ يوليو 2013.
أؤمن بأن
من يسعون لتلك المقاعد أسوأ بكثير ممن يحكموننا منذ عقود، فهم الأداة القانونية
التي يستخدمها الحكام لقهر الشعب والمشرط الحاد الماهر في اقتطاع أرضه وأصوله
والتفريط في حقوقه.
ولا عزاء
لمن ضاعت عليهم فرصة الحصول على كرتونة أو كيلو لحم جملي أو فرخة بيضاء، فأنتم
شركاء في جريمة الإفقار التي طالت كل بيت في مصر.