قضايا وآراء

أسفار الشريعة الأخيرة

عبد الرحمن أبو ذكري
"مرآة تدعو إلى الإيمان بالله وتزكية النفس بموجب هذا الإيمان، وبوصفه قوام هذه التشريعات، لا المناداة بها في مجتمع لم يُقرر ابتداء إخضاع نفسه لها"- عربي21
"مرآة تدعو إلى الإيمان بالله وتزكية النفس بموجب هذا الإيمان، وبوصفه قوام هذه التشريعات، لا المناداة بها في مجتمع لم يُقرر ابتداء إخضاع نفسه لها"- عربي21
ثمَّة سؤال شُغِلَ به كثيرون، عن اختلاف ترتيب سور القرآن الكريم وآياته في تنزُّلها عن ترتيب المصحف النهائي الذي بين أيدينا، والحكمة في ذلك الاختلاف. وهو سؤالٌ وثيقُ الصلة كذلك بخلفيَّة تنزُّل القرآن نفسهُ مُفرَّقا وعلى مُكث، وحسب حاجة المجتمع النبوي آنذاك -أولا بأول- ثم تكفُّل الله تعالى بحفظ أصله المنزَّل مُفرقا هذا -بعد إتمام تنزُّله- إلى يوم الدين، لكن على ترتيبٍ مخصوصٍ يختلفُ عن ترتيب نزوله. وعليه؛ يتعذر على المتدبِّر الانشغال بأمر منهما دون الآخر.

فإذا بدأنا من الجلي المجَمع عليه، وهو موافقة هذا الفَرق لحاجة الأمة الناشئة يومئذ، ولحاجة كل أمة مسلمة في طور التنشئة؛ تبيَّن لنا أن ترتيب النزول هذا ترتيبٌ تربوي-حركي، مُرتبطٌ بوجود نبي-رسول يُوحى إليه؛ لتربية أمَّته وتوجيهها، بل مُرتبطٌ تحديدا بحضرة خاتم الرُّسل والنبيين الذي قضى الله أن تتنزَّل شريعته صلى الله عليه وآله وسلم؛ لتُهيمن على دين الإنسانية كله، وتُهيمن على شرائعها السابقة إلى يوم الدين. فإذا ما انتهى وجود المجتمع الأول، الذي ربَّاه حضرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على عينه، بعد أن تسكُن حركته الاجتماعيَّة-الإيمانية تدريجيّا، بقبض حضرته صلى الله عليه وآله وسلم أولا ثم بتطاول الأمد؛ فمن المقطوع به أن الآليَّات "الخاصَّة" بحفظ الكتاب الكريم واستمراره في أداء دوره في الهيمنة على دين بني آدم يجب أن تتغيَّر في طور السكون المنتَكَس إليه عنها في طور الحركة الأولى، وذلك كي يستمر الكتاب الإلهي في هداية البشر إلى يوم البعث، حتى مع قعود الأمَّة المكلَّفة عن البلاغ عن أداء رسالتها.

ومن ذلك "التغيُّر" الضروري اختلاف ترتيب الوحي في المصحف النهائي إلى ما يُمكن لنا تسميته بـ"ترتيبٍ نسقي"؛ يجعل الكتاب نفسه بترتيبه التوقيفي الجديد أداة بلاغ إلهيَّة فعَّالة "بذاتها"، حتى بعد لحاق الأسوة الحسنة الذي جسَّده بالرفيق الأعلى، وانقراض الجيل-المثال الذي ربَّاه. هذا "الترتيب النسقي" الذي يُبقي الوحي نفسه نذيرا حيّا فعالا في صورة مصحف، يجب أن يكون هو الآخر ترتيبا توقيفيّا مُعجزا لكي يتمكَّن كلُّ عاجزٍ عن الاهتداء بفعل المؤمنين بتعاليمه من الاهتداء بالكتاب مباشرة، حتى إن قُدِّرَ له العثور عليه في صحراء جرداء، لكنه تمكَّن -بحول الله وقدرته- من قراءة آياته وحمله على مُراد قائله عزَّ وجل. بل إنَّ من ملامح الإعجاز "الحركي" لهذا "الترتيب النَّسَقي" الفعَّال للمصحف النهائي؛ أن يظل الكتاب هاديا "بذاته" -بإذن الله- حتى إن صار فعل أكثر هذه الأمة صدّا عن سبيل الله، كما نشهد في عصرنا؛ إذ يهتدي خلقٌ كثيرٌ من الأعاجم بكتاب الله تعالى وببعض ترجمات معانيه، رغم هُزال ما تنقله تلك الترجمات من النفحات القدسيَّة، إضافة إلى التردي الشديد لحال أمة البلاغ!

إدراك وجود هذا الترتيب النسقي يلزمه طولُ نظرٍ في تركيب النصوص البشريَّة، واطرادها "المنطقي"؛ لتصل بقارئها إلى غاية. ليُعلَم أنه إذا كان هذا هو حال النصوص البشريَّة التي تُجاهد أصلا لمحاكاة الصنعة الإلهيَّة طمعا ببعض أثرها الخالد؛ فإن مسألة "الترتيب النسقي" لسور المصحف تصيرُ مُسلَّمة تحتاج إلى كشف، لا فرضيَّة تحتاج إلى إثبات. فجليٌّ أنه ترتيبٌ غائي، والقصد منه حمل من يتعرَّض له إلى غاية بعينها

ويبدو أن إدراك وجود هذا الترتيب النسقي يلزمه طولُ نظرٍ في تركيب النصوص البشريَّة، واطرادها "المنطقي"؛ لتصل بقارئها إلى غاية. ليُعلَم أنه إذا كان هذا هو حال النصوص البشريَّة التي تُجاهد أصلا لمحاكاة الصنعة الإلهيَّة طمعا ببعض أثرها الخالد؛ فإن مسألة "الترتيب النسقي" لسور المصحف تصيرُ مُسلَّمة تحتاج إلى كشف، لا فرضيَّة تحتاج إلى إثبات. فجليٌّ أنه ترتيبٌ غائي، والقصد منه حمل من يتعرَّض له إلى غاية بعينها. وإذا كان الكاتب البشري العاقل يُنزِّه نصه الناقص القاصر عن العبث والاضطراب، فإن الوحي أولى بذلك؛ بل إن ترتيبه الهادي لا يصيرُ فوق العبث والاضطراب فحسب، بل يتعيَّن أن يكون مُعجزا يؤدي دورا خارقا للعادات لا يُمكن للنص البشري أن يؤدي بعضه أصلا إلا في حالات قليلة نادرة، يقتربُ فيها نص البشر من الوحي الإلهي ومُراده بأقصى ما يُمكنه.

وإذا سلَّمنا بأن ثمَّة "نسق إلهي" لترتيب الكتب السماوية والشرائع الإلهيَّة التي تنزَّلَت على حضرة أنبياء الله ورُسله، من لدُن آدم إلى حضرة محمد، صلوات الله عليه وعلى آله وإخوانه النبيين؛ فإن القرآن الكريم يصيرُ امتدادا لهذا النسق ومتفرِّدا فيه في آن؛ امتدادا له بما أن الشرائع كلها من لدن حكيم عليم، ومتفرِّدا فيه بكونه الكتاب الخاتم -المحفوظ بحفظ الله أبدا- لتلك الكتب والشرائع، المهيمن عليها.

وعليه؛ فثمَّ سبب "نسقي" يجعل المصحف الشريف يُستَهَلُّ بسورٍ مدنيَّة طويلة، تكاد تكون من آخر ما نزل من القرآن الكريم (تنزَّلت البقرة بعد 86 سورة من أصل 114، وبعدها بقليل آل عمران والنساء، ثم كانت المائدة والتوبة من آخر ثلاث سور أُنزِلت!). وإذا كان المسلَّم به أن القرآن الكريم كتاب هداية برانية وجوانية، وكتاب تربية أخلاقيَّة ومدنيَّة، وكتاب توجيه للنفس والمجتمع، وكتاب شريعة وحقيقة؛ فإن تركيبه النسقي الموجَّه لحفظ وظيفته الأبديَّة يجب أن يُراعي -فيما يُراعي- تعرُّض أهل الشرائع السابقة له بالقراءة والتعرُّف، ومن ثم؛ يبدأ بالشق التشريعي البراني الاجتماعي المدني، الشق الذي يُخاطَب به المسلم وغير المسلم؛ وهو الشق الذي تنطبق أحكامه على كل من يسكُن ديار الإسلام، مسلما كان أم غير مُسلم. وهو الشق الذي يتماس أو يتقاطع كذلك مع شرائع من كان قبلنا؛ فيُقِرُّ منها ما شاء الله له الاستمرار، وينسخ ما شاء له النسخ سبحانه، ويُضيفُ ما اختصَّ به المولى جلَّ شأنه أمة ختم الرسالات؛ ليُهيمن به على كافَّة ما أُنزِلَ قبله.

هذه "الأسفار" التشريعيَّة الخمسة الأساسيَّة (السور القرآنية الأربع الأولى: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة، مُضافا إليها سورة التوبة التي تحوي أحكام الجهاد النهائيََّة) كلها سور مدنيَّة تُرسي دعائم الأمة الجديدة وملامحها الجوانية، قبل أن ترسم في سورة التوبة وبأحكامها حدود العلاقة مع غير المسلمين؛ أي الحدود البرانية لهذه الأمة. وربما لهذا أُمر حضرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإرسال باب مدينة علمه وابن عمه وربيبه -أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام- مُبلغا بالسورة كاملة إبَّان حج الصدِّيق أبي بكر بالناس في العام التاسع للهجرة؛ فيبدو أن الحكمة الإلهيَّة قد اقتضت أن يُبلَّغ هذا الفصل الحساس والخاتم من التشريع فورا وبواسطة هارون الشريعة المحمَّديَّة. فبهذا تكتمل هيمنة الشريعة الجديدة على كل ما سبقها.

هذه السور الخمس لا تحوي الأصول الإلهيَّة الكاملة المحفوظة لتوراة موسى بأسفارها الخمسة المشهورة فحسب (التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد، والتثنية)، وإنما تحوي كذلك كُلَّ الإضافة الإنجيليَّة الإلهيَّة الأصليَّة، التي تنزَّلَت بوصفها حاشية قصيرة مُكمِّلَة للتوراة، وتخفيفا لبعض أحكامها؛ تجسيدا لمهمة المسيح بن مريم -عليه وأمه السلام- التي أوردها القرآن على لسانه: "وَمُصَدِّقا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ" (آل عمران: 50)، أي أن السور الخمس كأنها تصويبٌ جامعٌ يُزيل كافَّة ما علق من تحريف وتشويه بالتوراة والإنجيل كليهما، إضافة إلى إقرارها لهيمنة الشريعة الجديدة بأحكام إضافيَّة وتصورات ضافية.

الأحكام والتشريعات التي تحويها هذه الأسفار القرآنيَّة المهيمنة، مثل قواعد المعاملات الماليَّة، وحدود المحرَّمات من الأطعمة والنساء، ومبادئ بناء عدل دنيوي نسبي، وآليات تحقيق هذه المنظومة عبر التقاضي والإشهاد، بل والإجراءات الجنائية؛ تظلُّ هي وغيرها محض مرآة برانية تُعبِّرُ عن شبكة علاقات اجتماعيَّة قوامها تربية جوانية مخصوصة، وتوجُّهٌ بالجواني والبراني معا إلى اليوم اﻵخر

ومن حيث الحجم، فإن الأسفار الموسويَّة الخمسة يكاد حجمها الإجمالي يُقارِب السور الخمس المذكورة، وذلك كما يعرف دارسو الأناجيل جيدا أن أطولها -في صورته التي نعرفها اليوم- يكاد يُقارِب طول جُزئين من أجزاء القرآن الكريم؛ أي أن الإنجيل كله أقصر من سورة البقرة. فإذا ما سلَّمنا بـ"تفوق" اللسان العربي الذي اختاره رب العزة لختم رسالاته إلى الأرض أبلغ ختام، واختاره لاستمرار هذه الرسالة/ الكتاب في الهداية إلى يوم أن يرث سبحانه الأرض ومن عليها، آخذين في الاعتبار تفرُّد مقدرة هذا اللسان القرآنية المعجزة على أداء المعاني الإلهيَّة والتعبير عن التصورات الربانية في أقل مساحة ممكنة؛ تبيَّن للقارئ المتدبر أن هذه السور تحوي فعلا كل محتوى الشريعة الموسويَّة في أصلها الصافي، مضافا إليه الحواشي العيسويَّة قبل تحريفها عن مواضعها.

هذه السور جعلها ربنا خير مُفتتح لكتابه، وأعظم تمهيد لسبر غور تعاليمه الجوانيَّة. فهي ليست تشريعات مُجرَّدة تتنزَّل في الفراغ دون ارتباط بواقع البشر، وإنما هي تشريعات تتنزَّل على أمَّة شكَّلها هذا الكتاب جوانيّا قبل أن يُعالج شأنها برانيّا؛ فهي المكمِّل البراني للبناء الجواني، أو الضابط الاجتماعي المكمِّل للتكوين الذاتي، والقواعد الموضوعيَّة الضامَّة للتربية الفرديَّة؛ فلا يُمكن -من ثم- استعادة هذه التشريعات إلى فضاء اجتماعي/ مجال عام/ أفق حركي دون تأهيل المُستَعيد لاستقبالها، كما تأهَّل لذلك أهل الصدر الأول بين يدي حضرة الأسوة الحسنة صلى الله عليه وآله وسلم. فقد تضافرت في هذه السور المباركة -وفي القرآن كله- أخبار الأمم السابقة مع الإطار العام الذي تنبني عليه الأمة المسلمة، واشتبكت دروس تاريخ من كان قبلنا بالقواعد الأوليَّة التي قررها الوحي لحركة هذه الأمة في الوجود؛ فتجلَّى للمتدبر المذعن معالم هذه الأمة وحدودها، ومن الذي يدخل في إطارها ومن الخارج منها.

 وعليه؛ لم تتجلَّ هيمنة الشريعة الخاتمة بكتابٍ محفوظ مُهيمن فحسب، وإنما بوعي تاريخي يضع حدودا نفسيَّة وعقليَّة وروحيَّة لأفذاذ الأمة، ويُبلور بذلك حدودا سوسيومعرفيَّة لاجتماع هؤلاء الأفراد المؤمنين، وهو الاجتماع الذي استلزم في علم الله تعالى كيانا سياسيّا ذا معالم ذاتيَّة فضفاضة يُمكن أن يصير معها هذا الاجتماع الأخلاقي/ القيمي واقعا ذا ملامح موضوعيَّة واضحة.

ولهذا، فإن الأحكام والتشريعات التي تحويها هذه الأسفار القرآنيَّة المهيمنة، مثل قواعد المعاملات الماليَّة، وحدود المحرَّمات من الأطعمة والنساء، ومبادئ بناء عدل دنيوي نسبي، وآليات تحقيق هذه المنظومة عبر التقاضي والإشهاد، بل والإجراءات الجنائية؛ تظلُّ هي وغيرها محض مرآة برانية تُعبِّرُ عن شبكة علاقات اجتماعيَّة قوامها تربية جوانية مخصوصة، وتوجُّهٌ بالجواني والبراني معا إلى اليوم اﻵخر. وكما لا يجوز اقتطاع بعضها والأخذ به وكفران غيره؛ كذلك لا يصح توهُّم إمكان تنزيلها كُليّا من أعلى دون أن تكون جسيدا لما هو أعمق في تكوين الإنسان المؤمن وشخصيته.

وإذا كانت هذه الأسفار مرآة طيبة لمن يأذن الله له بالنظر في هذا الكتاب؛ فإنها مرآة تدعو إلى الإيمان بالله وتزكية النفس بموجب هذا الإيمان، وبوصفه قوام هذه التشريعات، لا المناداة بها في مجتمع لم يُقرر ابتداء إخضاع نفسه لها. فإن محاولة فرضها من أعلى بوصفها "منظومة قانونية" مُصمَتة، في مجتمع لم يَنقَد لمقتضياتها طواعية؛ سيخلق انفصاما يصدُّ المستطلع الباحث عن سبيل الله، حتى يأذن له مولاه بالعبور فوق هذا الركام والنفاذ إلى القرآن الفاتح؛ فيجد من يدعوه بعد إذ أذن الله في ذلك بحفظه لكتابه وهدايته به، من غير حول لبشر ولا قوة. وذلك حتى إن كانت أمة البلاغ قد بلغ بها الضلال ما بلغته الأمم السابقة أو أكثر. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وهو سبحانه أعلى وأعلم.


x.com/abouzekryEG
facebook.com/abouzekry
التعليقات (0)

إلى القرآن

02-May-25 08:45 PM