قضايا وآراء

مسرحية نيالا: حكومة قيد "التأسيس"

أطلق الدعم السريع على حكومة نيالا اسم "حكومة السلام"- مقطع من فيديو سابق للدعم اسريع
يبدو أن من يفكر للدعم السريع لا يقرأ من كتاب التاريخ، فمتى كان المتمرد حميدتي يمتلك مقومات الدولة؟ ولماذا لا يتعظ من مغامرته الموءودة في حكم السودان، وهو الذي كان عند بوابة القصر الجمهوري يستعد لقراءة بيان استلام السلطة صبيحة الخامس عشر من نيسان/ أبريل؟ فأين آل به الحال بعد عامين من المغامرة، من بوابة القصر الجمهوري إلى الظهور مضطربا في نيالا وهو يجتمع بحكومته المزعومة خارج السودان؟ وكيف لمهزوم أن يصبح دولة على أشلاء ودماء السودانيين؟

الهزيمة هنا ليست ميدانية فحسب، بل أخلاقية أيضا. فقد هُزم الدعم السريع يوم قرر أن يحوّل منازل السودانيين إلى ثكنات عسكرية بعد طردهم منها، وسقط يوم ارتكب جنوده الانتهاكات الجسيمة وجرائم الحرب في الخرطوم والجزيرة وسنار، ويوم دفن الأحياء في الجنينة وقتل الأبرياء في الفاشر، ويوم دمّر البنية التحتية لدولة سودانية يتجاوز عمرها المائة عام.

هذا هو السقوط الأخلاقي بعينه لمشروع حكم بدأ متشدقا بشعارات الديمقراطية والحكم المدني، ثم تحوّل إلى مجموعات منفلتة بلا قيادة، لا همّ لها سوى النهب والقتل. لم يجْنِ قائدهم سوى سخط الشعب السوداني ولعناته

فكيف يفكر حميدتي في حكم شعب أذاقه كل هذه الويلات؟ وكيف تراجع طموحه الجامح من رئاسة السودان من قلب الخرطوم إلى إدارة حكومة تبعد 900 كيلومتر غرب البلاد على مشارف الحدود مع الجنوب؟

إن كان حميدتي جادا فيما يقول، فكان عليه أن يسأل نفسه: ماذا استفاد من فظائعه المستمرة لعامين؟ ولماذا يقتل جنودُه الأبرياءَ ويوثقون جرائمهم ويبثونها للعالم دون أن يجرؤ أحد على إدانتهم؟ هذا هو السقوط الأخلاقي بعينه لمشروع حكم بدأ متشدقا بشعارات الديمقراطية والحكم المدني، ثم تحوّل إلى مجموعات منفلتة بلا قيادة، لا همّ لها سوى النهب والقتل. لم يجْنِ قائدهم سوى سخط الشعب السوداني ولعناته، وبعد دحرهم في معركة الكرامة، تراجع التمرد إلى حواضنه الاجتماعية، وتحول مشروع الحكم إلى إدارة انفصالية من عواصم الجوار، وعاصمتها الافتراضية نيالا، مسرح العبث الجديد.

لم يحدث في تاريخ الحركات الانفصالية في أفريقيا أن حركة قتلت شعبا أرادت أن تحكمه كما يفعل الدعم السريع بشعب السودان ودارفور على وجه الخصوص. فمن مجازر الجنينة إلى حصار الفاشر المتواصل، من لم يمت جوعا مات بآلة الدعم السريع العسكرية التي لا تميز بين المدني والعسكري ولا ترحم النساء والأطفال. وبعد كل ذلك يطلق الدعم السريع على حكومة نيالا اسم "حكومة السلام"! سلام حميدتي الذي يدمر محطات المياه والكهرباء ويقتل المدنيين في كل مكان.

عندما تساءلت في مطلع المقال: من الذي يفكر للدعم السريع؟ كنت على يقين أن من يرعى هذا المشروع ألحق به هزيمة ساحقة سياسيا وعسكريا وأخلاقيا، وساهم في المقابل في توحيد الجبهة الداخلية خلف الجيش السوداني وقيادته المتمسكة بالقضاء على الدعم السريع، وهو المشروع الذي يمضي نحو غاياته في معارك كردفان ودارفور. أما سياسيا، فإن التمرد كفيل بإطلاق الرصاص على قدميه دون مساعدة أحد.

وبنظرة على تحالف "تأسيس" نراه تحالف الأضداد، فنائب رئيس التحالف عبد العزيز الحلو كان قد غادر مفاوضات سلام جوبا عام 2020 لأن حميدتي كان على رأس الوفد الحكومي المفاوض، انسحب الحلو يومها بحجة أنه لا يعترف به، فما الذي تغيّر اليوم حتى يقبل العمل تحت إدارته؟ ثانيا، يتبنى الدعم السريع خطاب محاربة دولة 56 والنظام السابق بذريعة أنهما حكومات النخب الشمالية التي همّشت دارفور، ثم يأتي بحليف مثل إبراهيم الميرغني، الوزير السابق في حكومة البشير وعضو الحزب الاتحادي الديمقراطي وأحد المؤسسين لدولة 56!

أكثر تناقضات حميدتي أنه قال في خطابه الأول أمام شركائه: إن مهمتهم الأساسية تحقيق العدالة في الانتهاكات ورد المظالم منذ استقلال السودان. فهل هناك انتهاكات في تاريخ السودان أكبر مما ارتكبه الدعم السريع؟

كما أن الحليف السياسي الآخر لحميدتي، المنشق عن قوى الثورة، كان من أشد المطالبين بذهاب العسكر إلى الثكنات، فإذا به اليوم ينصّب جنرالين من زعماء الحرب على قيادة المشهد باسم الهامش، مما يثبت أن تحالف "تأسيس" ليس سوى تحالف مصالح زُجّ بأطرافه تحت سقف واحد من قبل الرعاة والداعمين، دون أن تجمعهم رؤية سياسية مشتركة، بل إن ما يفرق بينهم أكثر مما يجمعهم. أضف إلى ذلك أن المجتمع الدولي غير متحمس لرعاية تجارب تقسيم جديدة تؤدي إلى دول فاشلة قائمة على (نزوات سياسية) لقادتها.

ألم يقرأ حميدتي قصة انفصال جنوب السودان؟ وكيف بدأ مشروع الراحل جون قرنق الذي حارب الجيش السوداني عقدين من الزمان ولم يتمكن من هزيمته؟ ولماذا فشل مشروعه المسمى "السودان الجديد"؟ وكيف تلاشت أحلامه في حكم السودان وتخلى الغرب عن سلفاكير بعد الانفصال؟

وأكثر تناقضات حميدتي أنه قال في خطابه الأول أمام شركائه: إن مهمتهم الأساسية تحقيق العدالة في الانتهاكات ورد المظالم منذ استقلال السودان. فهل هناك انتهاكات في تاريخ السودان أكبر مما ارتكبه الدعم السريع؟ ومتى يمثل زعيم "تأسيس" نفسه أمام العدالة؟