قضايا وآراء

أمريكا: شرطيّ العالم بين الهيمنة المطلقة وتآكل النظام الأحادي القطبية

"طبق ترامب مبدأ الصفقة في العلاقات الدولية، ورفع شعار أمريكا أولا بلا مواربة"- جيتي
المقدمة

منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، برزت الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى تقود العالم سياسيا واقتصاديا وعسكريا. وقد انبثقت هذه الهيمنة من نصر حاسم على قوى المحور (ألمانيا النازية، واليابان الإمبراطورية، وإيطاليا الفاشية)، وترسّخت من خلال "خطة مارشال" التي أنقذت أوروبا من الانهيار الاقتصادي. ومنذ ذلك الحين، اضطلعت واشنطن بدور مركزي في تشكيل المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، التي صُممت هياكلها بما يخدم المصالح الأمريكية.

لكن، هل أدت الولايات المتحدة دور "شرطي العالم" بعدل وإنصاف؟ أم أنها استغلت موقعها الفريد لفرض إرادتها السياسية والاقتصادية، لا سيما على الدول الضعيفة؟ هذا المقال يسعى للإجابة عن هذه الأسئلة من خلال تتبع المراحل التاريخية للهيمنة الأمريكية، واستعراض الأدوات التي استخدمتها للحفاظ على سيطرتها، وتحليل تداعيات سياساتها الأحادية، ثم طرح بدائل واقعية نحو نظام عالمي أكثر توازنا.

شرعت واشنطن في انتهاج سياسات أحادية الجانب على المسرح الدولي، شنت حروبا، وفرضت عقوبات، وضغطت على دول دون الرجوع إلى الأمم المتحدة أو الالتزام بالقانون الدولي

الجزء الأول: تصميم النظام العالمي على مقاس أمريكا

نصر الحرب وتأسيس منظومة دولية جديدة

شكّل انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية نقطة تحوّل في المشهد السياسي الدولي. ورغم أن الاتحاد السوفييتي لعب دورا محوريا في دحر النازية، فإن الولايات المتحدة خرجت من الحرب أكثر قوة اقتصاديا وعسكريا، والأهم من ذلك، كانت الدولة الوحيدة التي تمتلك السلاح النووي حينها. استغلت واشنطن هذه الميزة لإنشاء مؤسسات دولية تُكرّس هيمنتها:

- الأمم المتحدة، التي وُضعت مقارها في نيويورك، وتمنح الولايات المتحدة مقعدا دائما وحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن.

- صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، اللذان فرضا سياسات اقتصادية ليبرالية قاسية على الدول النامية، غالبا ما جاءت بنتائج عكسية عليها.

- النظام النقدي العالمي الذي وُلد في مؤتمر بريتون وودز، والذي ربط العملات بالدولار، والدولار بالذهب، إلى أن فَكّ الرئيس نيكسون هذا الارتباط عام 1971، مما حول الدولار إلى عملة غير مدعومة فعليا بأي أصل ملموس.

الفيتو: أداة ضد التوافق العالمي

من بين الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض أكثر من أي دولة أخرى، لا سيما في إحباط قرارات تدين حلفاءها (خصوصا إسرائيل). وقد أدى ذلك إلى تعطيل الإرادة الجماعية الدولية، وطرح تساؤلات جوهرية حول عدالة النظام الدولي القائم.

الجزء الثاني: ما بعد الحرب الباردة.. الأحادية في أوجها

انهيار الاتحاد السوفييتي وصعود العالم أحادي القطبية

جاء تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991 ليطوي صفحة الحرب الباردة، ويُسدل الستار على التوازن الثنائي في القوى، ويمنح الولايات المتحدة دور القوة العظمى الوحيدة في العالم. مستغلة غياب المنافس، شرعت واشنطن في انتهاج سياسات أحادية الجانب على المسرح الدولي، شنت حروبا، وفرضت عقوبات، وضغطت على دول دون الرجوع إلى الأمم المتحدة أو الالتزام بالقانون الدولي.

العقوبات والحصارات: أسلحة ضد الدول الأضعف

أمثلة بارزة على السياسات الأمريكية الأحادية:

- العراق: بعد حرب الخليج الأولى 1991، فرضت الولايات المتحدة عقوبات مدمّرة استمرت أكثر من عقد، وأسفرت عن مئات آلاف الضحايا من المدنيين.

- السودان: عانى من عقوبات اقتصادية خانقة لسنوات طويلة أعاقت تطوره التقني والاقتصادي.

- إيران: رغم توقيعها على الاتفاق النووي (JCPOA)، انسحبت إدارة ترامب من الاتفاق وفرضت عقوبات قاسية.

- أفغانستان وسوريا: التدخلات العسكرية الأمريكية خلّفت فوضى دائمة.

- كوبا: تخضع لحصار شامل منذ 1962 رغم الإدانة السنوية شبه الإجماعية في الجمعية العامة للأمم المتحدة.

الجزء الثالث: عهد ترامب.. الوجه العاري للهيمنة

ترامب: الإكراه السياسي وشرط السيادة

رغم أن السياسات الأمريكية لطالما سارت في اتجاه الهيمنة، فإن صعود دونالد ترامب عام 2017 مثّل مرحلة جديدة من الفجاجة في التعبير عنها. كرجل أعمال دخل عالم السياسة، طبق ترامب مبدأ "الصفقة" في العلاقات الدولية، ورفع شعار "أمريكا أولا" بلا مواربة.

ابتزاز مالي في الخليج

في الشهور الأولى من رئاسته، زار ترامب عددا من دول الخليج وخرج باتفاقات مالية ضخمة يمكن وصفها بأنها:

- تريليون دولار من السعودية.

- 1.4 تريليون دولار من قطر.

- 1.6 تريليون دولار من الإمارات.

لم تكن هذه "استثمارات" طبيعية، بل أقرب إلى "إتاوات سياسية" مقابل استمرار الحماية الأمريكية.

إهانة الحلفاء وفرض العقوبات على الشركاء

شملت سياسات ترامب أيضا:

- فرض رسوم جمركية على كندا والمكسيك رغم عضويتهما في اتفاقية "نافتا".

- حربا تجارية شاملة ضد الصين.

- تهديدات اقتصادية لألمانيا والاتحاد الأوروبي.

- إساءات علنية لقادة دول:

* تجاهل الرئيس الأوكراني علنا خلال زيارات رسمية.

* تعمد إهانة ملك الأردن.

* معاملة غير دبلوماسية لعدد من القادة الأفارقة.

كل ذلك ساهم في تشويه صورة الرئاسة الأمريكية وتقويض احترامها على الساحة الدولية.

الجزء الرابع: نتائج الهيمنة الأمريكية على الاستقرار العالمي

الإرهاب والتطرف كرد فعل

أدت السياسات الأمريكية الأحادية إلى خلق بيئات خصبة للتطرف:

- الفراغات الأمنية في العراق وأفغانستان أفسحت المجال أمام ظهور داعش والقاعدة.

- العقوبات الاقتصادية دفعت شبابا كثيرين إلى الهجرة غير الشرعية أو اعتناق أفكار متطرفة.

- استغلت أنظمة استبدادية التدخلات الأمريكية كذريعة لقمع المعارضة تحت شعار "مقاومة التدخل الأجنبي".

فقدان الثقة في المؤسسات الدولية

أدى التعسف الأمريكي إلى تقويض شرعية المؤسسات التي أنشأها بنفسه. فبالنسبة لدول الجنوب العالمي، لم يعد القانون الدولي يبدو كأداة للعدالة، بل كأداة للهيمنة. أما مجلس الأمن، فقد صار مرتهنا للفيتوهات، والمؤسسات المالية الدولية صارت تُتهم بخدمة مصالح الغرب على حساب الشعوب.

الجزء الخامس: نحو نظام عالمي جديد.. حلول واقعية

مع تآكل النظام الأحادي القطبية وتصاعد الرفض الدولي للهيمنة الأمريكية، بات العالم مهيئا لبناء نظام أكثر توازنا. ومن أبرز المقترحات:

1. بناء تحالفات سياسية واقتصادية جديدة. مثل تحالف البريكس، الذي يمكن تعزيزه من خلال:

- مشاريع بنية تحتية مشتركة.

- اتفاقات تجارة إقليمية.

- تنسيق سياسي مستقل عن واشنطن.

2. تقليل الاعتماد العالمي على الدولار. لتحجيم هيمنة الدولار:

- تطوير العملات الرقمية كـ"اليوان الرقمي".
قدّمت الولايات المتحدة نفسها كـ"شرطي العالم"، ورغم أن هذا الدور قد يكون مبررا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، إلا أنه تحوّل تدريجيا إلى أداة للهيمنة والتفرد وقمع الشعوب الضعيفة

- اعتماد العملات المحلية في التبادلات الثنائية.

- إنشاء نظام مالي بديل لـ"سويفت".

3. بناء منظومات دفاعية مشتركة. لتحقيق استقلالية أمنية:

- تحالف دفاعي إسلامي واسع.

- تعاون عسكري جنوب-جنوب بين الدول النامية.

4. تطوير صناعات ثقيلة وتقنية في الجنوب العالمي. تحقيق الاكتفاء الصناعي يتطلب:

- الاستثمار في الذكاء الاصطناعي والحوسبة المتقدمة.

- صناعة الطيران والسيارات.

- الطاقة المتجددة والتقنيات الحيوية.

5. توسيع العضوية الدائمة في مجلس الأمن. كسر احتكار الدول الخمس الكبرى بضم دول تمثّل الواقع الجغرافي والديموغرافي العالمي، مثل: تركيا، البرازيل، جنوب أفريقيا، إندونيسيا.

الخاتمة

على مدى ما يقرب من ثمانية عقود، قدّمت الولايات المتحدة نفسها كـ"شرطي العالم"، ورغم أن هذا الدور قد يكون مبررا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، إلا أنه تحوّل تدريجيا إلى أداة للهيمنة والتفرد وقمع الشعوب الضعيفة؛ من العقوبات الاقتصادية التي تفتك بالمدنيين، إلى الحروب التي تُشنّ دون غطاء قانوني، إلى الإهانات الدبلوماسية العلنية..