أثار مقطع فيديو وصف بـ"الصّادم" لطاقم طبي وهو يرقص على أنغام موسيقى شعبية صاخبة، داخل غرفة عمليات، أثناء إجراء جراحة، جدلا واسعا على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي في
المغرب، خلال الساعات القليلة الماضية.
المقطع المتداول، خلّف تباينا صارخا بين مختلف رواد مواقع التواصل الاجتماعي، بين من وصفه بـ"انتهاك صارخ لأخلاقيات المهنة الطبية، واستهتار غير مبرّر بسلامة المرضى"، ومن قال إنّ المشهد يقلّل من هيبة المؤسسات الصحية، وبين أشار إلى أنّ: "الموسيقى في
غرفة العمليات هي تقليد عالمي لخفض التوتّر".
في هذا التقرير، تستعرض "عربي21" ما توصلت إليه الدراسات الطبية العالمية حول استخدام الموسيقى في غرف العمليات، مقارنةً بالواقع المغربي الذي كشفه مقطع الفيديو المثير للجدل. فهل يمكن مقارنة التنظيم الدقيق للموسيقى في المستشفيات الأوروبية بما حدث في المغرب؟
جدل صحي يطفو على السطح
داخل غرفة العمليات في مصحة خاصة بمدينة أكادير، وأثناء قيامهم بعملية جراحية، ظهر طاقم طبّي وهو يرقص على أنغام موسيقى مغربية شعبية صاخبة؛ فيما أوردت مصادر محلّية أنّ: "الشخصين الظاهرين في التسجيل هما ممرضان، أحدهما ذو خبرة والآخر حديث التخرج"؛ ما أثار موجة تفاعل أخرى.
وبحسب المعلومات المتداولة، فإنّ: "الطبيب الجرّاح المشرف على العملية، وكذلك طبيب التخدير، لم يكونا حاضرين أثناء لحظة التصوير"، وهو ما جعل المغاربة، في عدد من منشوراتهم، يستفسرون عن شروط السلامة الطبية التي يجب أن تُؤمَّن خلال العمليات الجراحية، بالقول: هل يعدّ الوضع مقبولا في المؤسسات الصحية؟.
وأوردت عدد من المنشورات، ومقاطع فيديو، بعضها لأطباء، أنّ: "تشغيل الموسيقى خلال إجراء العمليات الجراحية، أمر شائع عبر العالم، بغية خلق أجواء من الهدوء والتركيز"؛ بينما أبرز آخرين: "ما جرى خلال هذه الحالة مختلف تماما، إذ أنّ الموسيقى الشعبية صاخبة ومرتفعة الصوت، ما يعكس ظروفا غير مناسبة للعمل داخل غرفة العمليات".
دراسات عالمية تكشف مفارقة صادمة
قبل مائة عام، انطلقت قصة الموسيقى في غرفة العمليات، حين أقدم جرّاح في إنجلترا باستئجار موسيقيين للعزف، وتهدئة أعصاب مرضاه، وذلك قبل التخدير، بغرض الخضوع للجراحة، أي أن المستهدف بالأصل كان المريض الذي سيخضع إلى العملية الجراحة. فيما باتت عقب ذلك، تُشغّل وفقا لرغبة العاملين في العملية.
بعدها بسنوات طوال، قام كبير الباحثين في إمبريال كوليدج في لندن، شارون ماري ويلدون، وفريقه، بتصوير 20 عملية جراحية في بريطانيا، على مدى ستة أشهر، بعضها أجري مع موسيقى وأخرى بدونها. ليتبيّن أنّ: "العمليات التي تمت مع الموسيقى كان الجراح أكثر عرضة بخمس بمرات لأن يكرر طلبا من أحد أعضاء فريقه الجراحي".
وفي السياق نفسه، توصّلت دراسة بريطانية، نشرت في دورية (
Journal of Advanced Nursing)، إلى أنّ: "الموسيقى في غرفة العمليات، قد يعرض صحة المريض للخطر، وذلك نتيجة تأثيرها على التواصل بين الطاقم الجراحي في العملية".
"في بعض الحالات، ظهر أنّ الممرضات تبذلن جهدا كبيرا من أجل سماع تعليمات الجرّاحين أثناء العملية. وفي إحدى العمليات، سألت الممرضة الجراح خفض صوت الموسيقى لأنها كانت تجد صعوبة في معرفة عدد أدوات التنظيف القطنية التي استخدمتها"، وفقا للدراسة نفسها.
وخلصت الدراسة، إلى أنّ: "الموسيقى في غرفة العمليات قد تتعارض مع التواصل بين أعضاء فريق الجراحة، ولكن نادرا ما يتم الاعتراف بها بوصفها خطرا محتملا على السلامة".
في المقابل، أبرز تقرير نشر في موقع
The BMJ، أنّ: "النوع المختار في غالب الأحيان هو الموسيقى الكلاسيكية التي يتم اختيارها بشكل عام من طرف الجرّاح الرئيسي، خلال 62 و 72 في المئة من الوقت تقريبا في الكثير من غرف العمليات".
وأبرز التقرير، أنّ: "ما يناهز 80 في المئة من عاملي غرفة العمليات، أفاد أن الاستماع لمقاطع موسيقية يُساعد في تحسين التعاون بين أعضاء الفريق، ويُقلل من مستويات القلق، ويُحسّن من كفاءة الأداء".
ووفقا لدراسة أُجريت خلال عام 2012، من مركز أبحاث الألم في جامعة يوتا، فإنّ: "المشاركين الذين ركّزوا بنشاط على الألحان المختلفة خلال تلقّي الصدمات الكهربائية لم يشعروا بألم كبير بنسبة 17 في المئة". فيما أكّدت الكلية الملكية للجراحين في بريطانيا، أنه في حالة تشغيل الموسيقى أثناء الجراحة، فإنه "يجب أن لا تكون عامل تشتيت".
وأوضح رئيس فريق الباحثين من قسم الجراحة والسرطان في امبريال كوليدج في لندن، شارون ماري ويلدون، أنّ: "الموسيقى يمكن أن تكون مفيدة للعاملين في غرف العمليات حيث غالبا ما يكون هناك الكثير من الضوضاء في الخلفية، فضلا عن الارتباك، ويمكن أن تساعد في تحسين التركيز".
بين المعايير العالمية والواقع المغربي
فيما تؤكد التجارب العالمية أنّ تشغيل الموسيقى أثناء إجراء العمليات الجراحية -إن وُجدت- يجب أن تخضع إلى معايير دقيقة، للحفاظ على حقوق المرضى وسلامة العمليات، وصفت جُملة من التصريحات، "أنّ: الإشكالية الحقيقية تكمن في غياب الضوابط الواضحة لاستخدام الموسيقى في الغرف الجراحية المغربية".
بين التصريحات التي رصدتها "عربي21" قول نقابي بقطاع الصحة، رحال لحسيني، إنّ: "الموسيقى في حد ذاتها ليست بالضرورة مشكلة، إذا لم تؤثر على ظروف إجراء العملية أو التركيز المطلوب، حتى وإن كانت بسيطة"، مردفا: "نوع الموسيقى المستعملة في الفيديو، قد يكون أحد أسباب الضجّة المثارة، لا الموسيقى في حد ذاتها".
وبينا اعتبر لحسيني، أنّ "الأهم هو احترام الشروط العلمية لإجراء العمليات الجراحية، وضمان نجاحها لصالح المريض، وأي تجاوز لذلك يظل غير مهني وغير مقبول"؛ قال رئيس الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة والحق في الحياة، علي لطفي، إنّ: "الموسيقى داخل غرف العمليات لها جوانب إيجابية وسلبية على حد سواء".
وأوضح لطفي، في عدد من التصريحات الإعلامية، في الساعات القليلة الماضية: "دراسات متعددة في أوروبا أثبتت أن الموسيقى قد تساعد على التخفيف من التوتر وتحسين تركيز الفريق الطبي، وتُعتمد في نحو 50 في المائة من الدول الأوروبية، بل وتصل إلى 72 في المائة في بريطانيا".
"بعض الجراحين يعتمدون على الموسيقى الكلاسيكية لخلق أجواء انسجام خلال العمليات، إلا أن ذلك لا يمنع وجود رأي مخالف يرى أنّ الموسيقى، خاصة بصوت مرتفع أو بنوع صاخب، قد تحدّ من جودة التواصل بين أعضاء الطاقم الطبي، ما يشكل خطرا في بعض الحالات" وفقا لرئيس الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة والحق في الحياة.
إلى ذلك، يكشف الجدل حول استخدام الموسيقى في غرف العمليات عن إشكالية تتطلب موازنة بين تحسين أداء الفريق الطبي وضمان سلامة المرضى. فبينما تكشف بعض الدراسات العالمية أنّ الموسيقى الهادئة قد تحسن التركيز وتخفف التوتر، فإن ما جرى في الفيديو المغربي يُبرز غياب الضوابط والمعايير المنظمة لهذه الممارسة.