مقالات مختارة

دونالد ترامب وأحوال الرأسمالية في جنوب افريقيا

«المخبر المحليّ» حول الوضع في جنوب أفريقيا لدونالد ترامب هو إيلون ماسك- جيتي
يأتي اختبار «احتمال الفظاظة» الذي تعرّض له الرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا في «المكتب البيضاوي»، بعد ثلاثة أشهر على حادثة طرد سفير بلاده – إبراهيم رسول من واشنطن، ما يقلّل من سمة «الكمين الديبلوماسي» الذي تعرّض له، والذي واجهه بهدوء أعصاب لافت، والطلب من وزير الزراعة «الأبيض» في حكومته إيضاح المسائل.

لا يقلل هذا من خطورة التلاعب بمفهوم «الإبادة» على لسان الرئيس الأمريكي حين أطفأ النور كي يعرض شريطاً – كاريكاتورياً إلى حد كبير – حول المظالم التي يتعرّض لها أبناء الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا. هو ترامب نفسه الذي لم تفتر له تصريحات حول وجوب اقتلاع سكان غزة من أرضهم لتحويلها إلى منتج استثماري كبير، كمخرج لا يجد سواه للحرب ذات المنحى الإبادي لهم. «الإبادة» مفهوم خطير. زجّه حيث لا أساس مادياً للحديث عنها، يتماشى مع التعامي عن رؤية الإبادة حيث ترتكب بالفعل، تماماً مثلما أن كل إبادة تُرتكب بذهنية «استباقية» خرافية، من نوع «إما أن تتحرّك لتبيد القوم أو أن تُباد على يدهم لاحقاً».

«المخبر المحليّ» حول الوضع في جنوب أفريقيا لدونالد ترامب هو إيلون ماسك. الوزير غير الوزير وفوق الوزير في الإدارة. مدير الكفاءات، والمنتمي للأقلية البيضاء، من «الأفريكانيرز» في جنوب أفريقيا. كانت له عدة محطات أثار فيها على امتداد الأعوام السابقة مساوئ سياسات تمكين السود اقتصادياً، لجهة أنّها تتطلب حصة إجبارية لرجال أعمال سود في الشركات. وهو يطالب جهاراً منذ أوائل هذا العام بمنح شركته ستارلينك رخصة تشغيل لخدمة الإنترنت الفضائي في جنوب أفريقيا. يدّعي أنه مستبعد «لأسباب عنصرية» بموجب قوانين التمكين. هذا في وقت لم يتقدم بأي طلب ترخيص رسميّ، ويصرّ على أن يقتطع هذا الاحتكار بالطرق غير الرسمية أولاً. ويظهر أن الرئيس رامافوزا يسعى هو الآخر للتملّص من «التمكين» بحيلة قانونية ما، لأجل إبرام الصفقة مع ماسك. أما الأخير فكان حاضراً وشاهداً على الكمين «نصف المنتظر» الذي تعرّض له رامافوزا على يد ترامب، بواسطة الدعاية التي روّج لها هو مطوّلاً.

عملياً، كان ماسك في حضرة «رئيسيه». إذ هو لا يزال يحتفظ بالجنسية الجنوب أفريقية، كما الكندية – ولو أنه حيّد نفسه عن السجال المباشر.

لا تلغي كل مشهدية «الكمين» الذي نصبه ترامب للرئيس الجنوب أفريقي اهتمام الأخير بالتوصل لتفاهم مع ماسك، يتضمن تسهيلات جمركية لشركة تسلا في مقابل استثمارها في بناء محطات شحن الكهرباء، واضطلاع شركات ماسك الأخرى بحقول استثمارية أخرى عديدة، منها ما يتصل بشقّ وتجهيز أنفاق، ومنها ما يرتبط بالأقمار الصناعية.

لكن ماسك يدرج سعيه لتأمين مصالحه في جنوب أفريقيا مع منظار يرد سياسة التمكين الاقتصادي للسود إلى انقلاب الأبارتيد رأساً على عقب، بحيث أن التمييز العنصري الذي كان معمولا به ضد السود والملونين صار اليوم – حسب هذا الخطاب – من نصيب البيض. وهذا ما تبناه ترامب، وفيه صدى لكلام من هذا القبيل يتفق أن تسمعه من مواطنين بيض سواء في زيمبابوي أو في جنوب أفريقيا. مع الفارق بين البلدين والتجربتين. فعدد البيض انخفض إلى حد كبير في زيمبابوي (روديسيا الجنوبية سابقا) إلى حدود 0.3 في المئة من عدد السكان، بعد أن كانت نسبتهم خمسة في المئة، مطلع الثمانينيات، يوم تحقق في آن واحد الاستقلال عن بريطانيا وإنهاء حكم الأقلية البيضاء الذاتي. الانخفاض الكبير بدأ بشكل واضح بعد منتصف التسعينيات، وبشكل خاص بعد عام 2000، مع سياسة الإصلاح الزراعي التي انتهجها الرئيس روبرت موغابي، الذي قضى على ملكية الأراضي الكبيرة التي كانت بحوزة المزارعين البيض عبر مصادرتها وتوزيعها، وكذلك، بنتيجة هذه السياسة تردي أحوال الاقتصاد ككل، نظرا للتراجع الكبير الذي رافقها لجهة انخفاض الإنتاج وتردي البنية التحتية. كانت نتيجة سياسات موغابي تجاه البيض إلغاء العملة الوطنية عام 2009 والاكتفاء بالدولار الأمريكي والراند الجنوب أفريقي، وفي النهاية أدى هذا الفشل الاقتصادي مقروناً بالاستئثار بالسلطة إلى خلع موغابي في نوفمبر 2017، قبل عامين من أن يتوفاه الأجل عن عمر 95 عاماً.

لم تتطور الأوضاع في جنوب أفريقيا على هذا النحو. حصل التداول على السلطة. تعاقب خمسة رؤساء منذ انتهاء نظام الفصل العنصري: مانديلا، ومبيكي، وموتلانتي، وزوما، والحالي رامافوزا. إلا أن الذين خلفوا مانديلا حامت حولهم، بقوة، تهم الفساد وسوء الإدارة. احتفظ حزب المؤتمر الوطني بالسلطة منذ ثلاثة عقود، ومع ذلك استمرت التعددية الحزبية، وأعيد تشكيل حزب التقدم الوطني الذي كان يمثل الأقلية البيضاء في صيغة متعددة إثنيا، تحت مسمى «التحالف الديمقراطي». وحزب المؤتمر نفسه متعدد التيارات حدّ الانقسام. خسارة المؤتمر الأغلبية المطلقة لأول مرة العام الماضي اضطرته لتشكيل حكومة ائتلافية مع هذا «التحالف» فتم تعيين الأفريكانير جون ستينهويزن وزيراً للزراعة، وهي حقيبة هامة جداً، بل «سيادية» في جنوب أفريقيا.

في الجلسة الحادة مع ترامب طلب رامافوزا من ستينهويزن إيضاح الأمور، فبين الأخير أن الهجمات على المزارعين البيض هي جزء من مشكلة أوسع تتعلق بالجريمة في المناطق الريفية، وأن هذه الهجمات لا تستهدف فئة عرقية معينة، كما برّر مشاركته في الحكومة بأنها لغرض قطع الطريق على التشكيلات المتطرفة ضد البيض. لا يتناقض هذا مع التراجع الفعلي في نسبة البيض، من 11 في المئة مطلع التسعينيات إلى 7 في المئة اليوم، وليس بسبب التفاوت في معدلات النمو السكاني «الطبيعي» فقط، بل لجملة عوامل منها ما يرتبط بتدهور الأمن والأمان، لكن منها ما يرتبط أيضاً بواقع أنها كانت أقلية عرقية مسيطرة، ولم تعد أمورها كذلك سياسياً. مع هذا، لا يزال الأفريكانيرز البيض يسيطرون على معظم الأراضي الزراعية، ما نسبته تفوق الـ 72 في المئة منها. فعن أي مصادرة لهذه الأراضي يتحدث ترامب، في حين أن الكم القليل الذي شمله الإصلاح الزراعي تم مقابل تعويضات. وما يسري على الزراعة ينطبق أيضاً على الصناعة والمصارف وشركات التأمين والتجارة. الأبارتيد الاقتصادي والمالي لم يندثر، ولو أن الأمور تبدلت ليس فقط في إطار الإدارة العامة، وإنما في مجالات التكنولوجيا والاتصالات والاقتصاد الرقمي، مع بروز رجال الأعمال من السود في هذا النطاق، وهذه تحديداً هي المجالات التي تعني «مواطنهم» إيلون ماسك.

يبقى أن سياسة التمكين الاقتصادي للسود لم تعد، منذ وقت طويل، تعبّر عن استراتيجية شاملة لإعادة توزيع الثروات والملكية العقارية وملكية المزارع، بل عن إتاحة المجال لعدد من المناضلين السياسيين والنقابيين السابقين ضد نظام الأبارتيد وأبنائهم وأصهرتهم في أن يتحولوا إلى عتاة الأوليغارشيين، وهذه حال رامافوزا. الذي وبّخه ترامب على ما لم يرتكبه، ما أعطاه حصانة تجاه ما «ارتكبه» – وأمثاله – بالفعل. كان عاملاً نقابياً فيما مضى، ثم «برع» في تحويل رصيده إلى مناصب استشارية لشركات في قطاعي التعدين والطاقة ثم لتأسيس شركاته الخاصة، إلى أن فرض نفسه كأحد أغنى أغنياء السود على المشهد السياسي، فانتخب رئيساً خلفاً لجاكوب زوما، وفي رصيده أنه على الأقل جمع ثروة طائلة قبل أن يصبح رئيساً – ولو بمعية «سياسة التمكين» وتسخير الصالح العام للخاص – في حين أن زوما، الذي كان يمثل يسار حزب المؤتمر، ويرطن بالاشتراكية ومصالح العمال والفلاحين وينادي بتأميم المناجم والمصارف وإعادة توزيع الأراضي أظهر شراهته للثروة والجاه، بعد أن انتُخب رئيساً. يبقى أن ثمة من يذهب إلى أن تمكين أقلية أوليغارشية من السود سيعود بالفائدة لاحقاً، بالتدرّج والتواتر، على عدد أكبر من السود، أي هناك بهذا المعنى، شكل عرقي، وأوليغارشي، غير مباشر، من العدالة!

وهناك من يقلب هذا المنطق: انتفاخ الأوليغارشية السوداء سيجعلها غير قادرة على كسر المعادلات الراكزة لتركز الثروة والأراضي لدى الأفريكانيرز البيض، وقادرة أقل فأقل على حكم البلاد في إطار مؤسساتي يستند إلى مقدار من التماسك المجتمعي.

(القدس العربي)