نشرت
صحيفة "
واشنطن بوست" مقالا للصحفي إيشان ثارور قال فيه إن
البابا فرنسيس
كان يعتبر نفسه "عالميا"، ولكن ليس بالمعنى الذي يقصده من ينتقدون
"
العولمة". حيث يُستخدَم مصطلح "العالمي" غالبا بصيغة
الازدراء.
ولسنوات،
ألقى القوميون اليمينيون في الغرب، على وجه الخصوص، مسؤولية إخفاقات مجتمعاتهم
ومشاكلها على عاتق دعاة "العولمة"، مقدمين صورة كاريكاتورية للنخب
الثرية المسافرة ببذخ، والتي تسعى وراء رأس المال متعدد الجنسيات والمخططات
الكوزموبوليتانية على حساب مواطنيها.
وتشكل
الرسالة المناهضة للعولمة جوهر الولاية الثانية للرئيس دونالد ترامب: فهي تُلقي
بظلالها على تحركات الإدارة لترحيل المهاجرين غير الشرعيين والطلاب الأجانب، وتؤجج
حماس رؤية ترامب الحمائية في محاولته
إعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي من خلال فرض تعريفات جمركية شاملة.
كما
شكل ازدراء أجندة "العولمة" انتقادات اليمين للبابا فرنسيس، رجل الدين
اليسوعي الأرجنتيني الذي توفي، الاثنين بعد إصابته بسكتة دماغية وفشل في عمل
القلب. وقد دفع دعمه لحقوق المهاجرين، ونشاطه في مجال تغير المناخ، وقبوله المشروط
للمثلية الجنسية، اليمينيين الأمريكيين إلى تصويره على أنه بابا "الصحوة"،
متعاطف مع "لاهوت التحرير" في الأمريكتين الذي ينتقده تقليديو
الفاتيكان
والمحافظون الغربيون.
وقد نصح ستيفن بانون، مستشار ترامب السابق،
نظراءه اليمينيين المتطرفين في أوروبا ذات مرة بأن ينظروا إلى البابا على أنه
"عدو".
وقد
أصر معهد ليبانتو، وهو مركز أبحاث كاثوليكي متشدد ثار ضد بابوية فرنسيس، مرارا
وتكرارا على أن البابا يقوم بعمل "شيوعي".
أثار
قرار البابا عام 2021 بالاعتذار عن الفظائع التي ارتكبها الغزاة الإسبان باسم
الكنيسة الكاثوليكية في العالم الجديد في القرن السادس عشر، غضبا في إسبانيا، حيث
سخر متحدث باسم حزب "فوكس" اليميني المتطرف قائلا: "لا أفهم كيف
يمكن لبابا يحمل الجنسية الأرجنتينية أن يعتذر نيابة عن الآخرين".
ولم يسلم
فرنسيس من غضب زملائه الأرجنتينيين أيضا، حيث صرح الرئيس الأرجنتيني المتشدد
خافيير ميلي في مقابلة قبل توليه منصبه بأن البابا "ممثل لليسار
الشرير". مع أنه أصبح أكثر تصالحا، وتجاهل اختلافاتهم "البسيطة" في
بيان حزن فيه على وفاة فرنسيس.
ومن
المفارقات الطفيفة أن أحد آخر الاجتماعات الرئيسية للبابا فرنسيس كان مع نائب
الرئيس جيه دي فانس، وهو متحول إلى الكاثوليكية، ويصور نفسه منذ ذلك الحين على أنه
قومي "ما بعد ليبرالي"، في إشارة إلى تقليد معين من التفكير الكاثوليكي
الرجعي.
وفي
الأسابيع الأولى من رئاسة ترامب، حاول فانس صياغة نزعته القومية في إطار المصطلحات
الكاثوليكية في العصور الوسطى، مستشهدا بمفهوم "ordo amoris" أو "نظام الحب" أو "الإحسان"،
الذي يوحي بأن المرء لديه التزام أكبر تجاه أولئك الأقرب إليك من الأبعد.
حتى
أيامه الأخيرة، لم يكن لدى فرنسيس وقت لمثل هذه الحجج. كتب في رسالة حديثة إلى
أساقفة الولايات المتحدة: "إن عملية ترحيل الأشخاص الذين غادروا أراضيهم في
كثير من الحالات لأسباب تتعلق بالفقر المدقع أو انعدام الأمن أو الاستغلال أو
الاضطهاد أو التدهور الخطير للبيئة، تضر بكرامة العديد من الرجال والنساء وأسر بأكملها،
وتضعهم في حالة من الضعف والعجز بشكل خاص".
في
ولاية ترامب الأولى، أشار فرنسيس إلى أن بناء البيت الأبيض للجدران الحدودية وفصل
الآباء طالبي اللجوء عن أطفالهم يجعل الرئيس "غير مسيحي".
وفي
خطابه بمناسبة عيد الفصح، الذي ألقاه نائب عنه نهاية هذا الأسبوع، ندد البابا
بالكراهية السائدة في أي عصر يزداد تطرفا. وجاء في النص: "كم يثار الازدراء
أحيانا تجاه الضعفاء والمهمشين والمهاجرين. أدعو جميع من يشغلون مناصب المسؤولية
السياسية في عالمنا ألا يستسلموا لمنطق الخوف".
وقد أمضى
البابا فرنسيس سنوات يحاول بإصرار مواجهة هذا الخوف من الغريب. وغسل أقدام
المهاجرين العرب طالبي اللجوء في أوروبا، وتوسل أن يسامحه مسلمو الروهينجا في حفل
عام بعد أن اتهمه منتقدوه بالتقصير في دعم محنتهم خلال زيارة له إلى ميانمار عام 2017،
حيث تعامل سلطاتها الأقلية المضطهدة كدخلاء عديمي الجنسية.
وخالف
السابقة البابوية ليجادل في عام 2023 ضد القوانين العلمانية المناهضة للمثليين،
قائلا: "إن المثلية الجنسية ليست جريمة".
وقال
ماركو بوليتي، كاتب سيرة البابا والمتابع لشؤون الفاتيكان منذ زمن طويل، لصحيفة "واشنطن
بوست": "كانت صورته صورة السامري الصالح، ومن خلاله، كانت الصورة التي
رسمها للكنيسة هي صورة السامري الصالح".
وكان فرنسيس
يرى نفسه "عالميا"، ولكن ليس بالمعنى الذي يقصده من ينتقدون
"العولمة". في خطاب ألقاه العام الماضي أمام المنتدى الاقتصادي العالمي
بدافوس، معقل العولمة، قال إن "عملية العولمة" كشفت عن
"الترابط بين دول العالم وشعوبه"، وبالتالي حملت "بعدا أخلاقيا
جوهريا". ودعا الدول والشركات إلى تعزيز "نماذج عولمة بعيدة النظر
وسليمة أخلاقيا" وتوجيه "السعي وراء السلطة والمكاسب الفردية"
لتحقيق مصلحة عامة أكبر.
وفي
عام 2018 حث على "عولمة التضامن"، داعيا إلى دعم الفقراء والعالقين في
مناطق الحروب أو الغارقين في الكوارث الإنسانية.
ويعلق
ثارور أن هذه المناشدات غالبا ما تهمل، وتبدو متناقضة تماما مع النظرة العالمية
للبيت الأبيض، حيث استند ترامب إلى المصلحة الوطنية الضيقة لتبرير تقليص المساعدات
الإنسانية الأمريكية لبقية العالم وتقليص اللوائح والتعهدات البيئية.
في عام
2017، أهدى فرنسيس ترامب نسخة من رسالته البابوية المكونة من 192 صفحة حول البيئة،
والتي أشارت إلى الإجماع العلمي القوي حول تغير المناخ الناجم عن أنشطة الإنسان،
ودعا إلى اتخاذ إجراءات جذرية للحد من الانبعاثات الكربونية.
ويبدو
أن الرئيس الأمريكي، الذي لا يعرف عنه حب القراءة، لم يأخذ الرسالة على محمل الجد،
حيث خرجت الولايات المتحدة لاحقا من اتفاقية باريس للمناخ.
وانتخب
فرنسيس من قبل مجمع في عام 2013، بعد أن خرج العالم من الأزمة المالية العالمية.
لكن السنوات التي تلت ذلك شهدت موجات من الأزمات وعدم الاستقرار.
فشلت
الدبلوماسية الدولية في وقف الحروب البشعة في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك في
أوكرانيا وغزة، حيث دعا فرنسيس منذ فترة طويلة إلى وقف إطلاق نار دائم. وهز وباء
كورونا العالم.
وفي
الديمقراطيات الغربية، اتسعت فجوة التفاوت الاقتصادي واستمرت المؤسسة الليبرالية
في الانهيار، وبرزت الشعبوية اليمينية الغاضبة إلى الواجهة.
ليس من
الواضح أي كاردينال سيخلف فرنسيس، ولكن هناك احتمال بأن تسفر ردة فعل عنيفة من
المحافظين المتشددين عن خليفة أكثر عقائدية. ستكون شخصيةٌ كهذه أقل عدائية مع
ترامب وفانس، لكنها ستذكر الآخرين بالخسارة التي حصلت برحيل هذا البابا.
قالت
بريجيت ثالهامر، الراهبة النمساوية التي كانت تقف بجانب نافورة في ساحة القديس
بطرس بعد ظهر الاثنين، لصحيفة "واشنطن بوست": "كان لا يزال صوتا،
صوتا أخلاقيا، أخلاقيا بمعنى أنه دافع عن السلام والعدالة وكرامة الناس. ويراودني
السؤال: من يُمكن أن يكون هذا الصوت الآن؟".