آراء ثقافية

عن يوسا وأدب أمريكا اللاتينية

"بفضل الترجمات عرفنا أن شعوب تلك المنطقة تتقاطع مع شعوبنا بالكثير من العوامل"- CC0
برحيل الكاتب العظيم البيروفي الإسباني ماريو بارغاس يوسا، نكون قد وقفنا على نهايات حقبة مهمة من الأدب الأمريكي اللاتيني، وما صاحبه من نقاشات صاخبة تجلت في سبعينيات القرن الفائت حول الالتزام والتحرر في الكتابة.

وقد اجتاحت موجة أدب أمريكا اللاتينية بلادنا مع نشاط الترجمة من اللغة الإسبانية بفضل أساتذة مميزين على رأسهم الأستاذ صالح علماني؛ فقد افتتح لنا مناطق جديدة، ركزت على هواجس إنسان تلك المنطقة ووجهاته نحو الحرية والحرب. وبفضل تلك الترجمات، عرفنا أن شعوب تلك المنطقة تتقاطع مع شعوبنا بالكثير من العوامل، وأهمها هيمنة الدكتاتوريات على مفاصل الحكم.

بدأت حركات الترجمة بأهم الأعمال لأستورياس وبورخيس وماركيز.. الخطاب الأدبي فيها حاسم وواضح بتأييد الأفكار الاشتراكية.

يوسا كان من ضمن تلك الموجة أيضا، فقد كتب ثلاث روايات تنتمي إلى مرحلة الالتزام الاشتراكي هي: "زمن البطل"، و"البيت الأخضر"، و"حديث في الكاتدرائية". وللأسف لم يترجم للآن من هذه الحقبة سوى رواية البيت الأخضر.

في عام 1971، حدث انقلاب جذري في أفكار يوسا، وزعزعت حادثة اعتقال السلطات الكوبية الثورية شاعرا ثوريا؛ ثقته بتلك الأفكار. هزت هذه الحادثة يوسا، فأصبح تدريجيا يعيد النظر في آرائه عن الأدب ووظيفته، وعن جدوى الأيديولوجيا والبعد العقائدي والالتزام في إيجاد حلول ناجعة للناس وللرواية. قرر أن يبدأ بالتجريب، فوجد ضالته في أمرين ظلا حتى نهاية مشروعه الأدبي يحكمان مساراته، هما برأيي: الفكاهة، وإعادة اكتشاف التاريخ.

أصدر فيما بعد روايته الساخرة "بنتالون والزائرات" 1973، رواية كانت الفكاهة الساخرة أهم ركيزة فيها. وفي سنة 1977 أصدر رواية "العمة خوليا وكاتب السيناريو". في هذه الرواية انتهج يوسا مسارين للسرد؛ أحدهما مسار خطي يستقي من تاريخه الشخصي وتجربته في الزواج الأول، والمسار الثاني كان مسارا دائريا يتمحور حول كاتب السيناريو الذي تدور حوله الرواية، والشخصيات المبتكرة التي ابتدعها كاتب السيناريو، وأصبحت تتغير وتتبدل ضمن لعبة سردية دائرية مضحكة. أصبحت هذه الشخصيات تتكرر في روايات يوسا القادمة، مثل الرقيب ليتوما ومايتا، وغيرهما.

هناك لعبة ذكية في كتبه اللاحقة، حيث إنه يقوم بتكرار أبطاله في أكثر من رواية، كما أنه يقوم بتكرار بعض الأحداث وكأنه يقول لنا إنني أكتب رواية واحدة، ولكنها تتعدد في زوايا النظر، وهذا يمكن أن يكون مجالا بحثيا يدرس دلالات ذلك كله.

أنهى فيما بعد ملحمته المطولة "حرب نهاية العالم" (1981). تتحدث الرواية عن حرب أهلية في البرازيل في القرن التاسع عشر، وكانت مغامرته الأولى نحو التاريخ والتأمل المتأني بوجوهه المختلفة. ناقشت هذه الرواية قضية التطرف والحروب العقائدية، توالت بعد ذلك رواياته التي تتخذ من التاريخ منطلقا وأرضية تمتد فيه أحداث الرواية، فكانت روايات "قصة مايتا" (1984)، و"حفلة التيس" (2002)" و"حلم السلتي" (2010)" و"زوايا خمس" (2016)، وأخيرا "زمن عصيب" (2019). تحدثت هذه الروايات عن أحداث تاريخية حقيقية في تاريخ أمريكا اللاتينية، بعض هذه الأحداث كانت مهمة وبعضها كان هامشيا في الظاهر، لكن يوسا بكل الأحوال نجح بعصر هذه الأحداث التاريخية واستخلص لنا روايات تتميز بالتشويق والعظمة. وإذا كان لنا جرعة عالية من هذا التشويق والاستمتاع بتلك الروايات التاريخية التي أبدعها يوسا، فلا شك أنه مع مواطن أمريكا الناطق باللغة الإسبانية ستكون تلك الجرعة مضاعفة؛ ليس بحكم اشتراكه باللغة نفسها فقط، ولكن بمعرفته للتاريخ الحقيقي للأحداث؛ من ثَمّ تتبع الخيال والحقيقة، وما بينهما من روح الكاتب وتحركاتها المبدعة. وأي متعة تتجاوز ذلك؟!

ماركيز ورحلة التناظر العكسي!

منذ أن أنهى يوسا دراسته عن أدب ماركيز في نهاية عام 1971 بعنوان "ماركيز تاريخ الموت"، بدأت علاقتهما الشخصية بالتدهور، وبدأت مشاريعهما الأدبية بالتباين شيئا فشيئا، وكانت ذروة انقطاع علاقتهما الشخصية هي لكمة عنيفة وجهها يوسا لوجه ماركيز في عام 1976. ظل سر هذه اللكمة مطويا حتى يومنا هذا، ولكن الإشاعات تحدثت عن السبب، وهو علاقة ماركيز بزوجة يوسا الثانية باتريشيا.

وأما مشاريعهما الأدبية، فقد اتسمت بنوع من المناكفة التي كان مبتدؤها في الأغلب يوسا. ويمكن لنا بالكثير من المغامرة والفكاهة، أن نفترض أن العلاقة الأدبية الخفية بين ما يكتبه يوسا وماركيز، هي علاقة أشبه بانعكاس المرايا المكسورة التي ظلت هاجسا عند يوسا، انتهى بحصوله على جائزة نوبل سنة 2010. يمكن للقارئ لكلا الكاتبين الكبيرين أن يلاحظ ذلك ويرصده، وإليكم بعض هذه الأمثلة:

- "مائة عام من العزلة" مقابل "حرب نهاية العالم".

- "شيطنات الطفلة الخبيثة" مقابل "مذكرات عاهراتي الحزينات".

- "خريف البطريرك" مقابل "حفلة التيس".

- "من قتل بالومينو موليرو" مقابل "قصة موت معلن".

ولولا الإطالة، لذكرت لكم شواهد كثيرة لإثبات هذا الزعم، لكنني أتركها للقارئ الفضولي المزعج، الذي لا تفوته مثل هذه الشائعات فيلاحقها أو يهلك دونها.

على الصعيد الشخصي ليوسا والحديث عن جوانب أخرى لهذا العبقري الراحل. إلى هنا أرجو منك أيها القارئ ألا تكمل المقال إذا كنت من دعاة وهْم التناغم بين الإنتاج الأدبي والحياة الشخصية.

فقد كان صاحبنا لا أدريا، صاحب طموح سياسي مزمن مليء بالمناكفات، أدى إلى تحالفه مع قوى يمين الوسط في انتخابات رئاسة الجمهورية عام 1990 ضد رفقاء الأمس من اليسار الاشتراكي في بلده البيرو، وفشل فيها، بعد أن ترك كل شيء وراءه ثلاث سنوات وتفرغ للسياسة.

وكان في عام 1971 ضمن لجنة تحقيق في حادثة إرهابية هزت البيرو. قدمت هذه اللجنة في النهاية تقريرا مخزيا مؤيدا للحكومة القمعية، وظل هذا التقرير يلاحق يوسا حتى نهاية عمره. في عام 1995 تسلم جائزة القدس من الكيان الصهيوني، وتوالت زياراته إلى الكيان لثلاث مرات أخرى، زار في إحداها مناطق السلطة الفلسطينية، ثم في عام 2005 أصدر كتابه "إسرائيل-فلسطين.. سلام أم حرب مقدسة"، أعرب فيه بوضوح عن رفضه لسياسة "إسرائيل" في قمع الفلسطينيين، رغم اعتداده الدائم بصداقة الكيان.

وفي أثناء غزو العراق، أيد وبشكل مطلق الغزو الأمريكي على العراق، معبرا عن أنه لا يمكن تغيير الدكتاتوريات من الداخل. وفي المعركة الأخيرة (طوفان الأقصى)، أيد بوضوح أيضا ما يسمى "حق الدولة الإسرائيلية في الدفاع عن النفس ضد إرهاب حماس".

وأخيرا، سنة 2021 كشفت الوثائق المسربة لفضيحة "باندورا"، تهربه الكبير من الضرائب المفروضة على مؤسساته الكثيرة.

وأيا كانت مواقفه من مشاكلنا العربية، فإن لنا أن نتخذ اتجاهه من انحيازات حادة واضحة، ونحن جديرون بذلك، لكن لا يمكن إغفال عبقريته التي رسمت ملامح واضحة بوصف معاناة الإنسان تجاه الظلم والدكتاتوريات، والإبحار في لجة كتبه سيكون حتما إبحارا ممتتعا يعج بالاكتشافات.