منذ سنوات، ارتبط
ملف العفو العام في
لبنان بالسجال السياسي والمزايدات الانتخابية والضغائن
المذهبية. لا يكاد يقترب استحقاق برلماني حتى يُخرِج بعض المرشحين هذا الملف من
الأدراج، لا عن قناعة أو التزام، بل لحشد الشارع وشد العصب الطائفي، لا سيما في
البيئة السنية اللبنانية.
لكن، بعيدا عن
هذا الاستثمار السياسي، ثمة مجموعات حقوقية حملت لواء هذا الملف وتابعته بإصرار
ومثابرة يوما بيوم، منذ أكثر من خمسة عشر عاما. وقد وجدوا مؤخرا دعما لافتا من
مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، الذي وضع هذا الملف في مقدمة أولوياته، فقد
أكدت مصادر خاصة أن أول ما طرحه على رئيس الجمهورية جوزيف عون هو أن يفتتح عهده
الجديد بقرار العفو العام رفعا للظلم الحاصل، كما وطرحه شخصيا على رئيس الجمهورية
السورية أحمد الشرع خلال زيارة وفد علمائي لبناني إلى دمشق، في بادرة نادرة تكسر
الجليد السياسي والديني في آنٍ معا.
ما لم يكن في
الحسبان، هو أن تتقاطع قضية الموقوفين السوريين في السجون اللبنانية -ومعظمهم بلا
محاكمات منذ سنوات- مع ملفات أخرى شائكة، أبرزها ملف الموقوفين الإسلاميين، وتوقيف
العقيد السابق في الجيش اللبناني عميد حمود. الثلاثة يربطهم خيط سياسي واحد: مناصرتهم،
بشكل أو بآخر، للثورة السورية وفصائل المعارضة التي باتت تحكم
سوريا بعد أكثر من
عقد على انطلاقتها.
تتقاطع قضية الموقوفين السوريين في السجون اللبنانية -ومعظمهم بلا محاكمات منذ سنوات- مع ملفات أخرى شائكة، أبرزها ملف الموقوفين الإسلاميين، وتوقيف العقيد السابق في الجيش اللبناني عميد حمود. الثلاثة يربطهم خيط سياسي واحد: مناصرتهم، بشكل أو بآخر، للثورة السورية
فهل تكون دمشق،
التي استقبلت المفتي دريان استقبال الفاتحين، مستعدة لحمل هذا الملف الإنساني السياسي؟
وهل تُبادر إلى المطالبة بالإفراج عن الموقوفين السوريين كجزء من تسوية سياسية
أكبر؟ أم أننا سنشهد تكرارا لمشهد إطلاق سراح مساجين صيدنايا في 8 كانون الأول/ ديسمبر
2024، نفسه في سجن رومية، نتيجة تصعيد شعبي وسياسي، لبناني سوري مشترك؟
ظلم طويل..
ونهاية قد تكون انفجارا
منذ اندلاع
الثورة السورية، كان الظلم الدموي سيد المشهد؛ قتل واعتقال وتهجير وانهيار مؤسسات،
قبل أن ينهار النظام نفسه تحت وطأة صمود شعبه. واليوم، يتساءل كثيرون: أليس الظلم
الذي يُمارس على الطائفة السنّية، من اللبنانيين والسوريين في السجون اللبنانية،
بشكل مباشر وممنهج، قابلا لأن ينفجر يوما ما؟ هل يعقل أن يُحتجز آلاف الشباب من
دون محاكمة لأكثر من خمسة عشر عاما؟ هل يبقى الصوت الرسمي صامتا أمام هذا الخلل
القضائي الطائفي الخطير؟
صحيح أن بعض
الأصوات السياسية والقضائية تُعارض العفو الشامل عن جميع الموقوفين الإسلاميين،
بحجّة مشاركة قلة منهم في معارك ضد الجيش اللبناني، كمعركة عبرا في 2013، ومعارك
عرسال عام 2014. لكن حتى باعتراف هؤلاء، فإن هذه الشريحة لا تتجاوز 10 في المئة من
مجمل الموقوفين، فهل يُعقل أن تُحتجز الأغلبية الساحقة رهينة لتهم لم يُثبتها
القضاء؟ أليس هذا الوجه الآخر للظلم بعينه؟
قضية العقيد
المتقاعد عميد حمود ليست إلا حلقة جديدة في مسلسل الاستهداف السياسي والطائفي
المستمر، وقد دفعت بسماحة المفتي إلى رفع سقف خطابه، محذرا بوضوح: "لا دولة
من دون أمن
السنّة، ولا دولة حين يُهمّش السنة". وهو موقف غير مسبوق منذ
توليه منصب الإفتاء، ويعكس حجم الاستفزاز الذي بلغ مداه، وشعور المؤسسة الدينية
الرسمية أنه آن الأوان أن تلفح الرياح التغييرية وجه لبنان.
واللافت دخول المفتي
دريان شخصيا على خط معالجة قضية حمود، الموقوف في ملف مستوصف السلام الطبي، حيث كلّف
نقيب المحامين الأسبق محمد المراد بمتابعة الملف قضائيا. وهذه الخطوة تعكس عمق
الأزمة، وحرص المرجعية السنية العليا على كسر هذا النمط من الكيدية السياسية التي
ترهق الطائفة وتكسر هيبتها.
التحولات
الإقليمية والعودة إلى السند التاريخي
يسجّل السوريون انتصارا واضحا بإسقاط النظام البعثي وتأسيس بنية نظام سياسي جديد، وها هم سنّة لبنان يتنفسون الصعداء، ويشعرون لأول مرة منذ سنوات باسترجاع السند الإقليمي والعربي، الذي طالما شكّل ركيزة التوازن اللبناني، عبر عودة العرب للبنان، وعودة سوريا لموقعها الطبيعي ظهيرا للبنان وشعبه
اليوم، وبعد
أربعة عشر عاما من النضال، يسجّل السوريون انتصارا واضحا بإسقاط النظام البعثي
وتأسيس بنية نظام سياسي جديد، وها هم سنّة لبنان يتنفسون الصعداء، ويشعرون لأول
مرة منذ سنوات باسترجاع السند الإقليمي والعربي، الذي طالما شكّل ركيزة التوازن
اللبناني، عبر عودة العرب للبنان، وعودة سوريا لموقعها الطبيعي ظهيرا للبنان وشعبه.
وكان لافتا أنه
وفي كل لقاءات الرئيس السوري أحمد الشرع مع الوفود اللبنانية، كان يؤكد: "مدن
السنّة في لبنان وقفوا إلى جانبنا.. ومن واجبنا أن نرد هذا الدَين". وليس هذا
الكلام مجرد مجاملة، بل تُرجم عمليا بخطوات ملموسة حتى ولو لم تكن بالحجم الكبير: فبداية
مع استقبال المفتي دريان في دمشق استقبالا يليق بالقيادات التاريخية، في مشهد أعاد
للأذهان حقبة المفتي الشهيد حسن خالد، مرورا بمنح الفنان اللبناني فضل شاكر عضوية
فخرية في نقابة الفنانين السوريين، وليس انتهاء بزيارات متكررة لرجال أعمال
لبنانيين من طرابلس وبيروت والبقاع إلى دمشق، تمهيدا لتعاون اقتصادي متين.
وليس خافيا أن
هذا الحراك اللبناني بات مدفوعا من غطاء سعودي عبر زيارات المبعوث الخاص الأمير
يزيد بن فرحان، بالتنسيق مع تركيا الفاعلة في سوريا نتيجة الواقع الجغرافي، وليس
انتهاء بالدور القطري والذي توج بدعم الدوحة لمشروع العودة الطوعية للاجئين
السوريين بدعم خطة الحكومة اللبنانية، وأخيرا بالدفع الأمريكي عبر زيارات المبعوث
الخاص توماس باراك الذي وضع ملف العلاقات السورية اللبنانية ضمن بنود الورقة الأمريكية
المقدمة للحكومة اللبنانية.
لكن تبقى الكرة
في ملعب السلطة السياسية اللبنانية؛ فإما أن تواكب التحولات الجارية في سوريا
والمنطقة، وتُحسن التقاط اللحظة السياسية المناسبة، أو أن تبقى عالقة في أوهام
زمنٍ ولّى وانتهى.. كان يُسمى "الأسد".