غالبا لا
تنتهي التنظيمات المتطرفة بانهيارها العسكري، بل تتكاثر تحت رماد الهزيمة، وتنبعث
بأسماء أو وجوه جديدة، أكثر قدرة على التخفي، وأشد تطرفا في الخطاب والفعل. تنظيم
"
داعش"، الذي سقط ككيان في العراق وسوريا، لم يختفِ، بل توزّع على
جماعات صغيرة تتبنى
فكره، وتعيد إنتاجه في ساحات جديدة، تحت شعارات مختلفة، لكن
بعقل واحد.
الانفجار
الذي استهدف
كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة الدمشقي لم يكن حدثا منفصلا، بل تعبير
مباشر عن هذه المرحلة الجديدة من التطرّف: مرحلة ما بعد "داعش"، حيث
تنتقل الفكرة من تنظيم مركزي إلى شظايا مبعثرة. قد لا تحمل هذه الجماعات اسم
"الدولة الإسلامية"، لكنها تحمل روحها، ومنهجها، وتتكلم بلسانها.
المفارقة
أن العملية لم تستهدف خصما عسكريا، بل رمزا دينيا في حيّ مختلط، في محاولة مكشوفة
لإشعال نزاع طائفي وتدمير نسيج التعايش في سوربا الجديدة. وهذا يُعيدنا إلى جوهر
الفكر "الداعشي": توظيف العنف الرمزي لإعادة تشكيل الهوية.
الانفجار الذي هزّ كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة الدمشقي لم يكن مجرد اعتداء إرهابي عابر، بل جرح غائر في الوجدان السوري، ينطق باسم الجميع، ويذكّرنا بأن التهديد لم ينتهِ بسقوط "داعش" ككيان جغرافي
الدويلعة:
جرح ينطق باسم الجميع..
الانفجار
الذي هزّ كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة الدمشقي لم يكن مجرد اعتداء
إرهابي عابر،
بل جرح غائر في الوجدان السوري، ينطق باسم الجميع، ويذكّرنا بأن التهديد لم ينتهِ
بسقوط "داعش" ككيان جغرافي. وزارة الداخلية السورية أعلنت بوضوح أن
تنظيم "داعش" هو المسؤول عن العملية، ما يؤكد أن الفكرة لم تُهزم، وأن
التنظيم، وإن فقد دولته، لم يفقد قدرته على الإيلام.
إن اختيار
الدويلعة -هذا الحيّ الدمشقي المختلط دينيا- لم يكن عبثيا. فالكنيسة التي استُهدفت
ليست مجرد مبنى ديني، بل رمز للعيش المشترك، للمحبة، وللسوريين الذين عاشوا معا
رغم الجراح. ولذلك، فإن الجريمة لم تكن ضد طائفة، بل ضد فكرة التعدد، وضد النسيج
السوري الذي يحاول ترميم نفسه. الجرح الذي خلّفته العملية في جسد الدويلعة، إنما
يصرخ باسم كل حيّ مهدد بالانقسام، وكل مدينة يخيم عليها شبح الفتنة، وكل وطن
تُستهدف فيه القيم قبل الأرواح.
العملية
تحمل بصمة "داعش" الكاملة: استهداف الرموز، واللعب على وتر الهويات،
ومحاولة تفجير التناقضات الكامنة داخل المجتمعات المتعبة. ما يلفت الانتباه هو أن
التنظيم، في نسخته الجديدة، لم يعد يحرص على الظهور كتنظيم مركزي، بل يكتفي بإشعال
الفتيل، وترك الفوضى تنتشر. لقد انتقل من احتلال الأرض إلى اختراق الذاكرة، ومن
رفع الرايات إلى زراعة الخوف في تفاصيل الحياة اليومية.
الدويلعة
اليوم ليست مجرد ضحية، بل مرآة لسوريا التي لا تزال تدفع ثمن الحرب، جرحها ليس خاصا،
بل عاما، لأنها ترشدنا على ضرورات المواجهة الشاملة التي تتجاوز البعد العسكري
لتصل إلى جذور الأزمة: في التعليم، وفي الدين، وفي العدالة، وفي شعور الأفراد
بالانتماء.
الدويلعة
تنزف، نعم، لكنها تذكّرنا أن الإرهاب لا يفرّق، وأن الجراح التي تُترك دون التئام،
قد تنطق بما لا نريد سماعه.
رحلة في
عقل المتطرف..
من الخطأ
الاعتقاد أن نهاية "داعش" كتنظيم تعني اختفاء نمط تفكيره، بل إن
المنظومة الذهنية التي صنعت التنظيم ما تزال تعمل، وتُنتج أتباعا جددا في سياقات
محلية متباينة. ويمكن تلخيص بنية هذا التفكير في ثلاثة عناصر أساسية:
الاغتراب
الجمعي:
الشاب
الذي ينضم إلى هذه الجماعات يشعر أنه لا ينتمي إلى الدولة، ولا إلى المجتمع، يعيش
حالة من "اللاانتماء"، فيبحث عن هوية بديلة تمنحه الإحساس بالقوة.
الجماعة هنا تُقدَّم كبديل للدولة، والأمير كبديل للأب، والسلاح كبديل للكرامة
المهدورة.
الرغبة في
الانتقام المعنوي:
غالبية
المتطرفين الجدد لا يُعبّرون فقط عن أيديولوجيا، بل عن جرح نرجسي عميق. يشعرون أن
العالم خذلهم: الثورة فشلت، والدولة همّشتهم، والمجتمع سخر منهم، فيُصبح العنف
وسيلة "لإثبات الذات" و"استعادة الكرامة" من خلال إيذاء الآخر
المختلف.
التفكير
الثنائي الصارم:
العقل
المتطرف يعمل وفق منطق: "نحن مقابل هم"، الخير المطلق مقابل الشر المطلق؛
هذه البنائية النفسية تُريح المتطرّف، لأنها تُجنّبه تعقيد الواقع، وتمنحه راحة
عقلية عبر تصنيف العالم ببساطة: العلوي عدو، المسيحي مرتد، الدولة طاغوت..
شظايا
"داعش"
ما تغيّر
الآن ليس مضمون التطرف، بل شكله وأدواته. التنظيم المركزي القوي الذي كان يسيطر
على مساحات واسعة، انكمش إلى جماعات صغيرة، تعمل بأسماء مختلفة، لكنها تتشارك:
- في
العقيدة: نظرية خاصة في الولاء والبراء، تكفير الأنظمة، وشرعنة القتل.
- في
التنظيم: اعتماد الخلايا المرنة، والاستخدام المكثف للتقنيات المشفّرة.
- في
السردية: خطاب المظلومية السنّية، واستدعاء واستخدام التاريخ.
ومن بين
هذه الجماعات، ظهرت أسماء عدة تتحرك ضمن هذا التيار الجديد:
- تنظيمات
ما بعد "داعش" في البادية السورية والعراقية.
- خلايا
سرية في مدن محاصرة بالفقر والتهميش.
- شبكات
لامركزية على الإنترنت تتولى التجنيد والتلقين عن بعد.
وكلها لا
تدين بالولاء لأمير واحد، لكنها تتغذى على العقيدة نفسها، وتنتج الفعل ذاته.
المعالجة
الاستراتيجية الشاملة هي الحل
رغم أهمية
الرد الأمني، فإن الاكتفاء به يُبقي المعركة مفتوحة. التطرف ليس فقط خطرا ماديا،
بل أزمة بنيوية تستدعي معالجات عميقة في ثلاثة مسارات متكاملة:
1- الجانب
الأمني والاستخباراتي:
التهديد القادم ليس فقط في الصحراء أو الجبال، بل في المدن، على الإنترنت، في المدارس، وربما في العقول التي لم تجد من يحتضن غضبها. المعركة اليوم في الذاكرة الجمعية، في سردية الانتماء، وفي إعادة تعريف المواطنة
- تطوير
أجهزة الاستخبارات نحو منهجية استباقية.
- تتبع
النشاط الرقمي المشفّر ووسائط التجنيد.
- رصد
الشبكات العابرة للحدود وتجفيف منابع الدعم المالي والفكري.
2- الجانب
الفكري والديني:
- إطلاق
خطاب ديني عقلاني، واقعي، يُعيد ثقة الشباب بالدين دون تطرّف.
- تفكيك
المفاهيم المغلوطة عبر التعليم والإعلام والمنابر.
- إشراك
علماء مجددين، لا موظفين في مؤسسة دينية بيروقراطية.
3- الجانب
الاجتماعي والاقتصادي:
- إشراك
الشباب في القرار، لا تهميشهم.
- خلق
مشاريع إنتاجية في المناطق المنسية، لا الاكتفاء بالإغاثة.
- إعادة
بناء مفهوم الوطن ليكون مظلة لا سجنا، وملاذا لا تهديدا.
"داعش" انتهى كدولة، لكنه لم يُهزم كفكرة، وما لم تُعالَج الجذور
التي أنجبته، فستبقى "أخواته" تتكاثر كالفطريات في شقوق الدولة والمجتمع.
التهديد
القادم ليس فقط في الصحراء أو الجبال، بل في المدن، على الإنترنت، في المدارس،
وربما في العقول التي لم تجد من يحتضن غضبها. المعركة اليوم في الذاكرة الجمعية،
في سردية الانتماء، وفي إعادة تعريف المواطنة.
الانتصار
الأمني مؤقت ما لم يُدعّم بانتصار فكري واجتماعي. وما لم تُبْنَ دولة يشعر الجميع
أنها تمثلهم، فإننا سنبقى نطارد أسماء جديدة لذات التنظيم القديم.